الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء و المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين
أهلا وسهلا بكم
إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التفضل بزيارة صفحة التعليمات كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل ، إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم مادامت الأرواح فيهم - فقال الله: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني"
اللّهم طهّر لساني من الكذب ، وقلبي من النفاق ، وعملي من الرياء ، وبصري من الخيانة ,, فإنّك تعلم خائنة الأعين ,, وما تخفي الصدور
اللهم استَخدِمني ولاَ تستَبدِلني، وانفَع بيِ، واجعَل عَملي خَالصاً لِوجهك الكَريم ... يا الله
اللهــم اجعل عملي على تمبـلر صالحاً,, واجعله لوجهك خالصاً,, ولا تجعل لأحد فيه شيئاً ,, وتقبل مني واجعله نورا لي في قبري,, وحسن خاتمة لي عند مماتي ,, ونجاةً من النار ومغفرةً من كل ذنب
يارب يارب يارب
KEMASKINI
_
مولد النبي صلى الله عليه وسلم
في صبيحة يوم الاثنين التاسع من ربيع الأول، لأول عام من حادثة الفيل، الموافق للعشرين من أبريل من سنة 571 م ولد نبي الرحمة والرسول الكريم وخاتم النبيين وأشرف المرسلين وأكرم الخلق: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ابن غالب بن فهر.
وذكرت بعض الروايات أن أمه آمنة بنت وهب لم تجد في حملها ما تجده النساء عادة من ألم وضعف، بل كان حملا سهلا يسيرا مباركا، كما روي أنها سمعت هاتفا يهتف بها قائلاً:
"إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع على الأرض فقولي: إني أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، وسميه محمدا".
ولما وضعته أمه خرج معه نور أضاء ما بين المشرق والمغرب، حتى أضاءت منه قصور بصرى بأرض الشام وهو المولود بمكة.
بيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونشأته:
وكانت الجزيرة العربية في ذلك الوقت قد انتشرت فيها عبادة الأصنام والأوثان، والإيمان بالخرافات والجهالات، كما انتشرت الأخلاف الوضيعة والعادات السيئة والتقاليد القبيحة مثل: الزنى، وشرب الخمر، والتجرؤ على القتل وسفك الدماء، وقتل الأبناء ووأد البنات - أي دفنهن حيات - خوفا من الفقر أو العار.
كما كان يسود التعصب القبلي الشديد الذي يدفع صاحبه إلى مناصرة أهل قبيلته بالحق أو البطل، والتفاخر بالأحساب والأنساب، والحرص على الشرف والمكانة والسمعة الذي كان كثيرا ما يفضي إلى حروب ومعارك بين القبائل تستمر سنوات طويلات، وتسفك فيها الدماء رخيصة، على الرغم من تفاهة الأسباب التي اشتعلت بسببها تلك الحروب.
ورغم نشأة النبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأجواء الجاهلية إلا أنه منذ صغره لم يتلوث بأي من هذه الوثنيات والعادات المنحرفة، ولم ينخرط مع أهل قبيلته في غيهم وظلمهم، بل حفظه الله من الوقوع في أن من ذلك منذ نعومة أظفاره.
وينتسب النص الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى أسرة عريقة ذات نسب عظيم عند العرب، فقد كان أجداده من أشراف العرب وأحسنهم سيرة.
وقد ولد - صلى الله عليه وسلم - يتيمًا فقيرًا، فقد توفي والده عبد الله أثناء حمل أمه آمنة بنت وهب فيه.
وكان من عادة العرب أن يدفعوا أولادهم عند ولادتهم إلى مرضعات يعشن في البادية؛ لكي يبعدوهم عن الأمراض المنتشرة في الحواضر، ولتقوى أجسادهم، وليتقنوا لغة العرب الفصيحة في مهدهم
ولذلك دفعت آمنة بنت وهب وليدها محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى مرضعة من بني سعد تسمى حليمة.
وقد رأت حليمة العجائب من بركة هذا الطفل المبارك محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث زاد اللبن في صدرها، وزاد الكلأ في مراعي أغنامها، وزادت الأغنام سمنًا ولحمًا ولبنًا، وتبدلت حياة حليمة من جفاف وفقر ومشقة ومعاناة إلى خير وفير وبركة عجيبة، فعلمت أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كونه ليس مثل كل الأطفال، بل هو طفل مبارك، واستيقنت أنه شخص سيكون له شأن كبير، فكانت حريصة كل الحرص عليه وعلى وجوده معها، وكانت شديدة المحبة له
وعندما بلغ النبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - ست سنوات توفيت أمه، فعاش في رعاية جده عبد المطلب الذي أعطاه رعاية كبيرة، وكان يردد كثيرًا أن هذا الغلام سيكون له شأن عظيم، ثم توفي عبد المطلب عندما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ثماني سنوات، وعهد بكفالته إلى عمه أبي طالب الذي قام بحق ابن أخيه خير قيام.
العناية الإلهية قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم -:
وفي صغره كان النبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - يعمل في رعي الأغنام، ثم اتجه للعمل في التجارة حين شب، وأبدى مهارة كبيرة في العمل التجاري، وعرف عنه الصدق والأمانة وكرم الأخلاق وحسن السيرة والعقل الراجح والحكمة البالغة.
وكان نبي الرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ينأى بنفسه عن كل خصال الجاهلية القبيحة، فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل من الذبائح التي تذبح للأصنام، ولم يكن يحضر أي عيد أو احتفال يقام للأوثان، بل كان معروفًا عنه كراهيته الشديدة لعبادة الأصنام وتعظيمها، حتى أنه كان لا يحب مجرد سماع الحلف باللات والعزى وهما صنمان مشهوران كان العرب يعظمونهما ويعبدونهما ويكثرون الحلف بهما.
ولم يكن نبي الرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يشارك شباب قريش في حفلات السمر واللهو ومجالس الغناء والعزف والخمر، وكان يستنكر الزنى واللهو مع النساء
وكان الرسول العظيم محمد - صلى الله عليه وسلم - يمتاز في قومه بالأخلاق الصالحة، حتى أنه كان أعظمهم مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأكثرهم حلمًا.
فاشتهر عنه مساعدة المحتاجين، وإعانة المبتلين، وإكرام الضيوف، والإحسان إلى الجيران، والوفاء بالعهد، وعفة اللسان، وكان قمة في الأمانة والصدق حتى عرف بين قومه بـ "الصادق الأمين"
في شهر ربيع الأول من كل عام يقيم المسلمون حفلات الذكرى لميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فينصبون السرادقات، ويرفعون الإعلام، ويلقون الخطب، ويذيعون الأحاديث، ويكتبون الفصول، يشرحون للناس فيما يخطبون ويذيعون ويكتبون سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أو ناحية من نواحي سيرته، ويذكرون تشريعه وأحكامه، وطريقته في التأديب، وإنهاض النفوس وتهذيب الأخلاق. يذكرون أطواره التي مر بها في حياته قبل البعثة وهو طفل رضيع في صحراء بني سعد، وهو غلام يرعى الغنم بمكة، وهو شاب قوي جلد يتجر ويسافر، ويحضر حرب الفجار وحلف الفضول.
ثم يذكرون دعوته وكيف بدأت سرية ثم كانت جهرية. ويذكرون ما ناله من أذى قومه، واضطهادهم له، وتضييقهم عليه حتى أخرجوه من دياره وأمواله إلى المدينة، فكانت الهجرة، وكانت الحروب، وكان التشريع والأحكام إلى أن نزل قوله تعالى بعد ثلاث وعشرين سنة من مبعثه: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً ﴾ [المائدة: 3].
يحتفلون على هذا النحو في يوم أو أيام، ويقولون: إنها ذكرى، ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الذاريات: 55]، ولقد كان المسلمون في عصورهم الأولى لا يعرفون احتفالاً خاصاً يقام في مثل هذه الأيام بقصد إحياء ذكرى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يرون أن عظمته ليست من جنس هذه العظمات التي يألفها الناس في أفذاذهم ورجالهم، والتي يخلعها الزمن على بعض الناس في بعض نواحي الحياة. لم تكن عظمته صلى الله عليه وسلم من جنس هذه العظمات المحدودة في نوعها، والمحدودة في أمدها. لم تكن من جنس هذه العظمات التي يخشى عليها من الضياع والتلاشي في بطون الأزمان والأيام؛ فيحتاج بقاؤها في أذهان الناس إلى مذكر.
كانوا يعرفون أن عظمته صلى الله عليه وسلم ليست من جنس هذه العظمات، وإنما هي العظمة الخالدة التي ينبغي أن تكون دائماً قارّة في النفوس، ماثلة في القلوب، ممتزجة بالدماء، مؤاخية للعقيدة. لذلك كانت هذه العظمة المحمدية ظاهرة في قولهم إذا نطقوا، في حركتهم إذا تحركوا، في سكونهم إذا سكنوا، في جميع شئونهم الفردية والاجتماعية، السرية والعلنية، الدنيوية والأخروية، فهي عظمة قد رسمت لهم باطن الحياة وظاهرها، وحدودها ودوائرها، لم تقف عند ناحية من نواحي الحياة، بل لم تفق عند حدود هذه الحياة الفانية، فشملت جميع نواحي الحياة وامتدت إلى الحياة الآخرة فكشفت لهم عن حجب غيبها، وصورت لهم ما يكون للمحسن فيها من نعيم، وما يكون للمسيء فيها من شقاء.
لم تكن عظمته عندهم بانتصار في معركة، ولا برأي في علم، ولا باختراع في صلاح، ولا بنظرية في أرض ولا سماء، وإنما كانت عظمة عامة وشاملة، ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الإسراء: 9- 10].
بهذا آمَن المسلمون في عصورهم الأولى يوم كان الإيمان قوياً في النفوس، تشتعل جذوته فتلتهب الجوارح، وتُبذل الأنفس، ويضحى بالأرواح في ترسّم خُطى تلك العظمة والجد في معرفتها، ونشرها على العالم مهذبة نقية حتى تحيا بها النفوس وتطمئن إليها القلوب، وبذلك كانت جميع أيامهم وجميع أوقاتهم ذكرى عملية لهذه العظمة، ذكرى عملية يتمثلون فيها مبادئه وأحكامه وإرشاداته الحكيمة ويسيرون على نهجها، فكانت حالتهم مثالاً صادقاً ومرآة صافية تُرى منها عظمة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الأمر بحاجة إلى مذكر بعظمة هم فيها سابحون، وبنورها مهتدون.
كانوا يرون النبي صلى الله عليه وسلم أعظم قدراً وأجل شأناً من أن يكرَّم كما يكرَّم آحاد الناس بخطبة تلقى أو حديث يذاع، أو فصل يكتب.
كرمه الله وليس بعد تكريم الله تكريم، وخلد اسمه في كتابه الخالد، فذكر اسمه الصريح، وذكره بوصف الرسالة مبعث العظمة، وذكره بوصف العبودية لله الواحد، وذكره بعظمة خُلقه، وذكره برحمته للمؤمنين، وبرحمته للناس أجمعين، وذكره بأنه المزكي للنفوس، والمعلم للكتاب والحكمة. ذكره بكل هذا كما ذكره بالتبشير والإنذار، وبأنه شهيد على أمته، وبأنه صاحب المقام المحمود، وجعل محبته من محبته، وطاعته من طاعته، وذكره في كتابه الخالد بهذا وبغيره من أوصاف التكريم بل من الأوصاف التي طبعه عليها وصاغه بها؛ بياناً لحقيقته، ورسماً لوظيفته.
لم يقف التكريم الإلهي لمحمد صلى الله عليه وسلم عند هذا الحد، بل جعل له ذكراً في الأولين إذ كتبه في التوراة والإنجيل، وبشر به على لسان عيسى بن مريم، وجعل له ذكراً في الآخرين إذ قرن بينه و بين اسمه الكريم في كلمه التوحيد التي بها يكون المرء مسلماً، والتي هي الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، وإذ جعل المناداة باسمه جزءاً من الأذان الذي يكرر في كل يوم خمس مرات بصوت مسموع؛ إيذاناً بالصلوات المفروضة، وجمعاً للمسلمين على عبادة الله، وفي التشهد كلما صلى مسلم فرضاً أو نقلاً. فكم إذاً من ملايين تفتر شفاهم، وتنطق ألسنتهم بذكر محمد صلى الله عليه وسلم في كل يوم و ليلة كلما أذن مؤذن أو أجاب مجيب، أو صلى مصلٍّ أو آمن مؤمن، أو تلا قارئ أو حدّث محدث.
لم يكن بعد هذا كله ما يُلتمس أن يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم، ومتى كانت هذه العظمة تنسى حتى تُذكر؟! ومتى كان هذا التكريم يخفى حتى يظهر؟! تلك روح خص الله بها نبيه ومصطفاه، لم تكن لتخفى على قلب يؤمن بالله وبرسوله الله.
آمن الأولون بهذا كله، آمنوا بأن تمجيد رسولهم وتكريمه إنما يكون عن طريق اتباعه وإحياء سنته والتحلي بأخلاقه، وإقامة شرعه ودينه. آمنوا بهذا واعلموا أن الإيمان الحق يثمر المحبة الصادقة؟ وللمحبة الصادقة حقوق وعليها تبعات، فمن حقوقها: المتابعة لمن تحب، والرضا بما يرضيه، والغضب لما يغضبه. ومن تبعاتها تحمل المشاق والتضحية بالنفس في سبيل رضا المحبوب.
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31]، ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ [التوبة: 24]، ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما)).
ظل المسلمون كذلك حتى ضعفوا واستكانوا، فانطفأ نور تلك العظمة من قلوبهم، وأقفرت بصائرهم من أسرارها، ولم يبق لهم منها إلا صور مرسومة بحروف في الصحف والكتب يرجعون إليها كلما عاودتهم ذكرى تلك العظمة، وكلما تذكروها في شهر ربيع.
طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وأعرضوا عن تعاليم تلك العظمة، وصاروا لا يذكرونها إلا إذا ذكروا ميلاد صاحبها، فوضعوها في مستوى العظمات الأخرى التي يألفها الناس في أفذاذهم، وجاروا الناس في تكريم عظمائهم بأساليبهم: بالأناشيد، والأزجال، والأنغام، وبالصور والزينات، وبالخطب والإذاعات، وتفننوا في المحاكاة حتى صاغوا عظمة محمد في أسلوب روائي قصصي، وقالوا: تلك قصة المولد الشريف.
وما كان لعظمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تكون قصة وهي الحقيقة الخالدة، وما كان لها أن تنسى وهي التهذيب الإنساني الدائم. ولكن هكذا ابتدع المسلمون هذا الأسلوب من التكريم، وصار لهم ليالٍ معدودة كليالي شم النسيم وليالي عيد الفصح ووفاء النيل. وهكذا ابتدع هذا الأسلوب كأثر من آثار الضعف حينما ابتلي المسلمون بالقول دون العمل، وحينما انقطعت الصلة العملية بين المسلمين وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
ابتدع هذا الأسلوب من التكريم بعد أن لم يكن، فهل بحث الناس عن سبب ابتداعه؟
وهل تساءلوا عن السر في أنه لم يكن ثم كان؟ هل انصرفوا إلى هذا الجانب الذي كان يرجى أن يعرفوا منه أسباب ضعفهم؟ كلا؛ ولكنهم انصرفوا إلى البحث في كونه بدعة أو ليس بدعة؟ وإذا كانت بدعة فهل هي بدعة حسنة أو بدعة غير حسنة؟
وهكذا اختلفت بهم المذاهب، وتعددت الآراء، وظلوا إلى يومنا هذا بين محبِّذ ومنكر؛ شأنهم في كل شيء تناولوه بروح الجدل الذي صرفهم عن العمل، وما ابتليت أمة في حياتها بشر من كثرة القول وقلة العمل، وقد ابتلى الله المسلمين بالجدل في كل شيء فصرفهم عن العمل بمقدار ما جادلوا، جادلوا في العقائد، وجادلوا في الأحكام، وجادلوا فيما ليس من العقائد ولا من الأحكام، وجادلوا في كلماتهم وألفاظهم، وجادلوا حتى في القواعد التي وضعوها للجدل!! وهكذا صار الجدل شغلهم الشاغل، فتلهوا به عن فهم الإسلام، وعظمة الإسلام وسرد دعوة الإسلام، تلهوا به عن فهم كلام الله، وعن إدراك مقومات الحياة التي لا تستطيع أمة أن ترفع رأسها إلا بها، واكتفوا بذكر محمد صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع، وأنه على خلق عظيم وأن شريعته صالحة لكل زمان ومكان، فانخفضت رؤوسهم، والتوت أعناقهم، وضعف سلطانهم، وتفرق شملهم، وتناثرت عزتهم، وشغلوا بالقول ونسوا دينهم، ومنبع عظمة نبيهم أساسه العمل، ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 105].
أيها السادة: لا نعلم في القرآن ولا في تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم آية واحدة أو حديثاً واحداً يجعل سبيل السعادة مجرد القول، بل نراهما يُنيطان النجاح دائماً بالعمل، وينعيان على القوّالين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2-3 ].
نعم قد نجد القول في شيء من الآيات والأحاديث ولكن مقروناً بطلب العمل، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ [فصلت: 30]، ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ [الزمر: 18]، ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)).
وهكذا كان صاحب الرسالة صلوات الله عليه فعالاً لا قوالاً، كان فعله أكثر من قوله، ذلك أن القول إذا لم يتبعه العمل كان الإيمان بالقائل ضعيفاً، وربما عُدَّ القائل الذي لا يعمل منافقاً أو مخادعاً، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 8 - 9].
ولقد كثر في أيامنا الدعاة إلى الخير وإلى الفضيلة وإلى الإصلاح وإلى الإنقاذ ولم تتجاوز دعواتهم حناجرهم، فعادت عليهم بالخسران والوبال، وسيخرجهم الزمن طوعاً أو كرهاً من صفوف المصلحين، وسيعلم الناس أنهم فيما يدعون كاذبون، وأنهم فيما يقولون مخادعون، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.
كان النبي صلى الله عليه وسلم معلماً بالعمل لا بالقول، وكان داعياً للفضيلة بالفضيلة تفيض من نفسه، وكان قدوة في أعماله، وأسوة بأفعاله، يتوضأ ويقول لأصحابه: ((هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي)) لم يشرح لهم فرضاً ولا سنة ولا مستحباً، كان يصلي ويقول لأصحابه: ((صلوا كما رأيتموني أصلي»، كان يحج ويقول: ((خذوا عني مناسككم))، لذلك كان عظيماً، وعظيماً فوق العظماء.
ولنذكر لكم بعض المثل العملية في ناحيتين من نواحي تلك العظمة العملية، ناحية تربيته للنفوس على الفضائل، وناحية إصلاحه للمجتمع إصلاحاً منظماً ثابتَ الأركان، مدعّم الجوانب.
1- طريقة الرسول في التهذيب:
يقول الله تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
ولنقف في هذه الآية عند قوله تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ}.
التزكية تطهير النفوس، وتقويم الأخلاق. ولذلك طريقان:
أحدهما: شرح للأخلاق الطيبة من مزايا وآثار تعود على المرء وعلى المجتمع بالخير والسعادة، وهي الطريقة
الوحيدة التي يعتمد عليها دعاة الإسلام ورؤساؤه اليوم.
والثاني: ضرب المثل العملية في هذه الأخلاق الفاضلة، ليرى الناس آثارها بأعينهم، وتنفعل بها نفوسهم فيتسابقون إلى التحلي بها، والانتفاع بآثارها.
وهذا الطريق الحكيم هو الذي سلكه محمد صلى الله عليه وسلم في تزكية النفوس، وتقويم الأخلاق، وكان قليلاً ما يكتفي بالطريق الأول.
1- كان يدعو إلى الرحمة، ويضرب المثل العملية في جميع تصرفاته، وليس أدل على هذا من موقفه من قومه، وقد كادوا ما كادوا، فجاءه جبريل يقول له: إن الله قد علم ما رد به قومك عليك، وقد أمر ملك الجبال أن يصنع ما شئت بهم، فناداه ملك الجبال: مرني يا محمد بما شئت؛ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت. فماذا كان جوابه؟ ماذا كان جوابه وقد أتته القوة التي لا تبقي ولا تذر؟ ماذا كان جوابه وقد مُكِّن له من الذين نكلوا به وبأصحابه وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم؟ كان جوابه: لا. بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله!
وجاءه عمر بن الخطاب بعد غزوة أحد وقال له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ﴾ [نوح: 26]، ولو دعوت علينا بمثلها لهلكنا عن آخرنا، فلقد وُطِئَ ظهرك، وأُدمي وجهك، وكسرت رَباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيراً، فقلت: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
لذلك يقول الله عز وجل: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]، ويقول: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: من 128].
2- كان يعلمهم العفو عند المقدرة:
تجلى ذلك منه عملياً يوم الفتح، يوم أن دخل مكة ظافراً منتصراً يكاد رأسه يمس سرج فرسه من الخضوع، يوم أن دخلها في خضوع المؤمنين لا في صلف الجبارين و المتعنتين، وقد اجتمع حوله أقطاب قريش وصناديدهم ينظرون ما هو فاعل بهم، تصطك مفاصلهم، وترتجف قلوبهم من هول ما ينظرون؛ جرياً على عادة الفاتحين المتغلبين. يومئذ قال لهم: ((يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
وقد قصده غورث بن الحارث ليفتك به وهو نائم في حر الظهيرة تحت شجرة بعيداً عن أصحابه وهم جميعاً نائمون، فأحس صلى الله عليه وسلم بحركة فانتبه فإذا رجل قائم على رأسه والسيف مصلت في يده قائلاً: ((ما يمنعك مني يا محمد؟ فقال: الله يمنعني منك ويعصمني.
فسقط السيف من يد الرجل، فتناوله النبي صلى الله عليه وسلم وقال للرجل: ما يمنعك مني يا أخا العرب؟! فقال حلمُك وعفوك. فتركه النبي وعفا عنه. فرجع الرجل إلى قومه مسلماً يقول لهم: جئتكم من عند خير الناس)).
وجاءه رجل لم يسلم وكان له دَين عليه: جاءه يتقاضاه دَينه، فجذب ثوبه عن منكبيه، وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ، ثم قال: ((إنكم يا بني عبد المطلب مُطْل، فانتهره عمر وشدد له في القول، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر، تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي))، ثم قال: ((لقد بقي من أجله ثلاث، وأمر عمر بأن يقضيه ماله، ويزيده عشرين صاعاً؛ لما روعه))، فكان سبب إسلامه.
ولقد كان رسول الله عليه وسلم شجاعاً كأتمّ ما تكون الشجاعة، لم يكن شجاعاً بالقول فقط، وإنما كان شجاعاً بالفعل، وفي ذلك يقول علي رضي الله عنه: ((لقد كنا إذا حمى البأس، واحمرت الحدق؛ اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً))، وكان الشجاع هو الذي يقرب منه صلى الله عليه وسلم إذا دنا العدو؛ لقربه منه.
وليس يعرف التاريخ قائداً بطلاً كمحمد صلى الله عليه وسلم، فرّ أصحابه من موقفهم يوم أحد متلهين بالغنائم، مخالفين عن أمره: ألا يبرحوا الشعب ولو رأوه وأصحابه يُقتلون، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي بنفسه عن قوسه حتى اندقت سِيَتُها، وأحاط به نفر من المسلمين يدفعون عنه ويحمونه، وترّس أبو دجانة بنفسه دون رسول الله، فنحى ظهره والنبل يقع فيه.
ووقف سعد بن وقاص إلى جانبه يرمي بالنيل دونه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناوله النيل ويقول له: ارْم فداك أبي وأمي. وأصيب النبي صلى الله عليه وسلم فوقع لشقّه، وكسرت رباعيته، وشج وجهه، وكُلمت شفته، ودخلت حلقتان من المغفر - الذي يستر به وجهه - وفي وجنتيه، ولكنه مع هذا تمالك نفسه وأخذ ينادي المسلمين: ((إلي عباد الله.. إلي عباد الله))، فإذا به يقع في حفرة حفرها المشركون ليقع فيها المسلمون، فيأخذ علي بيده، ويرفعه طلحة بن عبيد الله حتى يستوي.
موقف من مواقف البطولة لا يعهد لقائد غير رسول الله، وفي هذا الموقف العلمي يقول الله في كتابه العزيز: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [آل عمران: 152- 153].
ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم يشترك مع أصحابه فيما يفعلون من شئون الحرب كأنه جندي من جنوده، وكان يحمل التراب في غزوة الخندق على كاهله، وهو يعلم أن فيهم من يكفيه ذلك راضياً مسروراً، ولكنه يضرب لهم الأمثال بما يفعل، ويثير في قلوبهم حماسة الإيمان.
3- إصلاحه لنواحي المجتمع:
كان له صلى الله عليه وسلم طرق عملية في تأديب الذين ينحرفون عن واجب الإيمان، وسبيل المؤمنين المخلصين، فقد تخلف بعض أصحابه عن الخروج إلى غزوة من الغزوات، ولم يقدموا عذراً يشفع لهم في هذا التخلف، ولما رجع الرسول وصحبه إلى المدينة جاءه أولئك المتخلفون وصدقوه الحديث، فقرر النبي صلى الله عليه وسلم مقاطعتهم حتى عن رد السلام وإلقائه، وفي هذا التأديب الذي أقره الله عليه يقول الله تعالى:
﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 117- 119].
هكذا كان تأديب النبي لأصحابه وتربيته لأخلاقهم.
كان الإصلاح الإلهي للأمم أنجع الأدوية يقدرها الحكيم العليم الخبير بناء على علمه بحالة المريض وبما تحتمله صحته وجسمه. وقد وزع الإصلاح على الرسل كما وزعت الرسل على الأمم، فلما كمل استعداد الإنسانية لتلقي جميع أنواع الإصلاح أرسل خاتم الأنبياء إلى جميع العالم، مذكراً بما مضى من إصلاح إخوانه المرسلين، متماً لرسالة الله معمماً الناس أجمعين، فجاءت رسالته إصلاحاً عاماً شاملاً، ولم يترك سبيلاً للسعادة إلا شرعه، ودعا إليه، ولا آخر للشقاء إلا منعه ونفر منه، ولم يعرف العالم هذا الإصلاح الشامل العام قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
1- أصلح العقيدة، وكانت من قبل بين الإفراط، كانت بين عقل ينكر الله، ولا يعترف بوجوده، ويقول: ﴿ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ﴾ [الجاثـية: 24]، وبين داع يدعو مع الله إلهاً آخر، ويشرك به ما لا ينفعه ولا يضره فجاء بالعقيدة القويمة: أنباهم بأن ربهم واحد، وأنه هو القادر العليم الحكيم المستحق وحده للعبادة، وأن تتوجه القلوب إليه، فكرم بذلك الإنسان، وأزال وصمة الشرك والعبودية لغير الله.
ثم أمد هذه العقيدة بمدد دائم روحي لا ينقطع، يذكر بها ويعين عليها؛ أمدها بالصلوات التي تصل بين العبد وربه، وتذكره كل يوم خمس مرات بخالقة ومنشئه، وتنهاه عن الفحشاء و المنكر، وأمدها بالصوم تمريناً على الصبر، وتعويداً على الطاعة، ومراقبة لله في السر والعلن. أمدها بالزكاة، تمريناً على العطف والبر والرحمة، والرفق بالمحتاجين، وشكراً لله تعالى الذي منح الأغنياء ما في أيديهم من الأموال، وبارك لهم فيها.
2- وكما أصلح العقيدة وأمدها بهذا وأمثاله من ألوان المدد؛ أصلح المجتمع، والإصلاح في الأمم إنما يعتمد على عُمُد، ويقوم على أسس لا ينهض بدونها، ولا يثمر ثمراته إلا بها: إنه يعتمد على العلم والمال والأسرة ونظام الدولة، والصحة العامة والقوة والعدل. وفي هذه الدوائر يرسم الإسلام برنامج إصلاحه الشامل:
1- حث على العلم، وسوّى فيه بين الرجال والنساء.
2- وضع نظاماً للتعامل بالبيع والشراء والإجارة والوصية والميراث، ونحو ذلك، من شأنه أن يبطل النزاع، ويزل الفساد ويقضي على أسباب الفتن.
3- وضع نظاماً للأسرة يقيها الانحلال ويربط برباط المحبة والتعاون، للزوج فيه الحقوق، وللزوجة حقوق، وللأبناء حقوق وللآباء والأمهات حقوق, وضع هذا النظام دقيقاً شاملاً لكل علاقة من علاقات الأسرة صغيرة أو كبيرة، موافقاً لما يقضي به العقل والعدل والرحمة وحسن الصلة.
4- جعل للدولة نظاماً في حكومتها، ومحكوميها، وفي علاقتها بغيرها من الدول، وفي سلمها وحربها ومعاهداتها.
5- أمر بالمحافظة على صحة الشعب العامة، وعلم الأفراد النظافة بالغسل والوضوء، ومنع الضرر الناشئ من العدوى والوباء.
6- حث على اتخاذ الحيطة، وإعداد القوة، لتكون الدولة قوية الجانب، مهيبة في عيون أعدائها.
7- أمر بالعدل في كل شيء، بين الحاكم والمحكوم، بين السادة والمسودين، وبين الأغنياء والفقراء، وبين المتقاضين بين المتعاملين، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ [النساء: 135]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8 ].
أيها السادة: ذلكم قل من كثر من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وهديه، التي كان سلفنا بها عاملين، وعلى نهجها سائرين، والتي أصبحنا من بعدهم لها ذاكرين وبالذكرى مكتفين!
قولوا ما شئتم ولكن لا تكتفوا بالقول: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105].
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].