الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء و المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين

أهلا وسهلا بكم

إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التفضل بزيارة صفحة التعليمات كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل ، إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله يقول: "إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم مادامت الأرواح فيهم - فقال الله: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني"



اللّهم طهّر لساني من الكذب ، وقلبي من النفاق ، وعملي من الرياء ، وبصري من الخيانة ,, فإنّك تعلم خائنة الأعين ,, وما تخفي الصدور

اللهم استَخدِمني ولاَ تستَبدِلني، وانفَع بيِ، واجعَل عَملي خَالصاً لِوجهك الكَريم ... يا الله


اللهــم اجعل عملي على تمبـلر صالحاً,, واجعله لوجهك خالصاً,, ولا تجعل لأحد فيه شيئاً ,, وتقبل مني واجعله نورا لي في قبري,, وحسن خاتمة لي عند مماتي ,, ونجاةً من النار ومغفرةً من كل ذنب

يارب يارب يارب

    KEMASKINI

    _

    _
    ALLAHUMMA YA ALLAH BERIKANLAH KEJAYAAN DUNIA AKHIRAT PADAKU , AHLI KELUARGAKU DAN SEMUA YANG MEMBACA KARYA-KARYA YANG KUTULIS KERANA-MU AAMIIN YA RABBAL A'LAMIIN “Ya Allah, maafkanlah kesalahan kami, ampunkanlah dosa-dosa kami. Dosa-dosa kedua ibu bapa kami, saudara-saudara kami serta sahabat-sahabat kami. Dan Engkau kurniakanlah rahmatMu kepada seluruh hamba-hambaMu. Ya Allah, dengan rendah diri dan rasa hina yang sangat tinggi. Lindungilah kami dari kesesatan kejahilan yang nyata mahupun yang terselindung. Sesungguhnya tiadalah sebaik-baik perlindung selain Engkau. Jauhkanlah kami dari syirik dan kekaguman kepada diri sendiri. Hindarkanlah kami dari kata-kata yang dusta. Sesungguhnya Engkaulah yang maha berkuasa di atas setiap sesuatu.”

    أمراض القلوب وشفاؤها



    فصلٌ: «في مرض القلوب وشفائها»
    قال الله تعالى عن المنافقين: }فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا{ [سورة البقرة آية: 10]، وقال تعالى: }لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ{ [سورة الحج آية: 53]، وقال: }لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا{ [سورة الأحزاب آية: 60]، وقال: }وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا{ [سورة المدثر آية: 31]، وقال تعالى: }قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ{ [سورة يونس آية: 57]، وقال: }وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا{ [سورة الإسراء آية: 82]، وقال: }وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ{ [سورة التوبة آية: 14، 15].
    و«مرض البدن» خلاف صحته وصلاحه وهو فسادٌ يكون فيه يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية فإدراكه إما أن يذهب كالعمى والصمم. وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه كما يدرك الحلو مرًّا وكما يخيل إليه أشياء لا حقيقة لها في الخارج. وأما فساد حركته الطبيعية فمثل أن تضعف قوته عن الهضم أو مثل أن يبغض الأغذية التي يحتاج إليها ويحب الأشياء التي تضره ويحصل له من الآلام بحسب ذلك؛ ولكن مع ذلك المرض لم يمت ولم يهلك؛ بل فيه نوع قوةٍ على إدراك الحركة الإرادية في الجملة [فيتولد من ذلك] ألمٌ يحصل في البدن إما بسبب فساد الكمية أو الكيفية: فالأول أما نقص المادة فيحتاج إلى غذاءٍ وأما بسبب زياداتها فيحتاج إلى استفراغٍ. والثاني كقوة في الحرارة والبرودة خارجة عن الاعتدال فتداوى.
    وكذلك «مرض القلب» هو نوع فسادٍ يحصل له يفسد به تصوره وإرادته فتصوره بالشبهات التي تعرض له حتى لا يرى الحق أو يراه على خلاف ما هو عليه وإرادته بحيث يبغض الحق النافع ويحب الباطل الضار؛ فلهذا يفسر [المرض] تارةً بالشك والريب. كما فسر مجاهدٌ وقتادة قوله تعالى: }فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ{ [سورة البقرة آية: 10] أي شكٌّ. وتارةً يفسر بشهوة الزنا كما فسر به قوله تعالى: }فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ{ [سورة الأحزاب آية: 32]. ولهذا صنف الخرائطي «كتاب اعتلال القلوب» أي مرضها، وأراد به مرضها بالشهوة والمريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح فيضره يسير الحر والبرد والعمل ونحو ذلك من الأمور التي لا يقوى عليها لضعفه بالمرض. والمرض -في الجملة- يضعف المريض ويجعل قوته ضعيفةً لا تطيق ما يطيقه القوي. والصحة تحفظ بالمثل، وتزال بالضد. والمرض يقوى بمثل سببه. ويزول بضده فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه وزاد ضعف قوته حتى ربما يهلك. وإن حصل له ما يقوي القوة ويزيل المرض كان بالعكس.
    و«مرض القلب» ألمٌ يحصل في القلب كالغيظ من عدوٍّ استولى عليك فإن ذلك يؤلم القلب. قال الله تعالى: }وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ{ [سورة التوبة آية: 14، 15] فشفاؤهم بزوال ما حصل في قلوبهم من الألم ويقال: فلانٌ شفى غيظه وفي القود استشفاء أولياء المقتول ونحو ذلك.
    فهذا شفاءٌ من الغمِّ والغيظ والحزن وكل هذه آلامٌ تحصل في النفس. وكذلك «الشك والجهل» يؤلم القلب قال النبي r: «هَلَّا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّ شِفَاءُ الْعَيِّ السُّؤَالُ». والشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين ويقال للعالم الذي أجاب بما يبين الحق: قد شفاني بالجواب. والمرض دون الموت فالقلب يموت بالجهل المطلق ويمرض بنوع من الجهل فله موتٌ ومرضٌ وحياةٌ وشفاءٌ، وحياته وموته ومرضه وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته ومرضه وشفائه فلهذا مريض القلب إذا ورد عليه شبهةٌ أو شهوةٌ قوت مرضه وإن حصلت له حكمةٌ وموعظةٌ كانت من أسباب صلاحه وشفائه. قال تعالى: }لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ{ [سورة الحج آية: 53] لأن ذلك أورث شبهةً عندهم والقاسية قلوبهم ليبسها فأولئك قلوبهم ضعيفةٌ بالمرض فصار ما ألقى الشيطان فتنةً لهم وهؤلاء كانت قلوبهم قاسيةً عن الإيمان فصار فتنةً لهم. قال: }لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ{ [سورة الأحزاب آية: 60] كما قال: }وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ{ [سورة المدثر آية: 31] لم تمت قلوبهم كموت قلوب الكفار والمنافقين وليست صحيحةً صالحةً كصالح قلوب المؤمنين بل فيها مرض شبهةٍ وشهواتٍ وكذلك }فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ{ [سورة الأحزاب آية: 32] وهو مرض الشهوة فإن القلب الصحيح لو تعرضت له المرأة لم يلتفت إليها بخلاف القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه فإذا خضعن بالقول طمع الذي في قلبه مرضٌ. والقرآن شفاءٌ لما في الصدور ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات ففيه من البينات ما يزيل الحق من الباطل فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها عبرةٌ ما يوجب صلاح القلب فيرغب القلب فيما ينفعه ويرغب عما يضره فيبقى القلب محبًّا للرشاد مبغضًا للغي بعد أن كان مريدًا للغي مبغضًا للرشاد. فالقرآن مزيلٌ للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة حتى يصلح القلب فتصلح إرادته ويعود إلى فطرته التي فطر عليها كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي ويغتذي القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويؤيده كما يغتذي البدن بما ينميه ويقومه فإن زكاة القلب مثل نماء البدن.
    و«الزكاة في اللغة» النماء والزيادة في الصلاح. يقال: زكا الشيء إذا نما في الصلاح فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح كما يحتاج البدن أن يربى بالأغذية المصلحة له ولا بد مع ذلك من منع ما يضره فلا ينمو البدن إلا بإعطاء ما ينفعه ومنع ما يضره، وكذلك القلب لا يزكو فينمو ويتم صلاحه إلا بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره وكذلك الزرع لا يزكو إلا بهذا.
    و«الصدقة» لما كانت تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار صار القلب يزكو بها وزكاته معنًى زائدٌ على طهارته من الذنب. قال الله تعالى: }خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا{ [سورة التوبة آية: 103] وكذلك ترك الفواحش يزكو بها القلب. وكذلك ترك المعاصي فإنها بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن ومثل الدغل في الزرع فإذا استفرغ البدن من الأخلاط الرديئة كاستخراج الدم الزائد تخلصت القوة الطبيعية واستراحت فينمو البدن وكذلك القلب إذا تاب من الذنوب كان استفراغًا من تخليطاته حيث خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا فإذا تاب من الذنوب تخلصت قوة القلب وإراداته للأعمال الصالحة واستراح القلب من تلك الحوادث الفاسدة التي كانت فيه. فزكاة القلب بحيث ينمو ويكمل. قال تعالى: }وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا{ [سورة النور آية: 21] وقال تعالى: }وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ{ [سورة النور آية: 28] وقال: }قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ{ [سورة النور آية: 30] وقال تعالى: }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى{ [سورة الأعلى آية: 14، 15] وقال تعالى: }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا{ [سورة الشمس آية: 9، 10] وقال تعالى: }وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى{ [سورة عبس آية: 3] وقال تعالى: }فَقُلْ هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى{ [سورة النازعات آية: 18، 19] فالتزكية وإن كان أصلها النماء والبركة وزيادة الخير فإنما تحصل بإزالة الشر؛ فلهذا صار التزكي يجمع هذا وهذا. وقال: }وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ{ [سورة فصلت آية: 6، 7]، وهي التوحيد والإيمان الذي به يزكو القلب فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب وإثبات إلهية الحق في القلب وهو حقيقةٌ لا إله إلا الله. وهذا أصل ما تزكو به القلوب. والتزكية جعل الشيء زكيًّا: إما في ذاته وإما في الاعتقاد والخبر؛ كما يقال عدلته إذا جعلته عدلًا في نفسه أو في اعتقاد الناس قال تعالى: }فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ{ [سورة النجم آية: 32] أي تخبروا بزكاتها وهذا غير قوله: }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا{ [سورة الشمس آية: 9] ولهذا قال: }هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى{ [سورة النجم آية: 32] وكان اسم زينب برة فقيل: تزكي نفسها فسماها رسول الله r زينب. وأما قوله: }أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ{ [سورة النساء آية: 49] أي يجعله زاكيًا ويخبر
    بزكاته كما يزكي المزكي الشهود فيخبر بعدلهم. و«العدل» هو الاعتدال، والاعتدال هو صلاح القلب كما أن الظلم فساده ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالمًا لنفسه والظلم خلاف العدل فلم يعدل على نفسه؛ بل ظلمها؛ فصلاح القلب في العدل وفساده في الظلم وإذا ظلم العبد نفسه فهو الظالم وهو المظلوم كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه فمنه العمل وعليه تعود ثمرة العمل من خيرٍ وشرٍّ. قال تعالى: }لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ{ [سورة البقرة آية: 286].
    والعمل له أثرٌ في القلب من نفعٍ وضرٍّ وصلاحٍ قبل أثره في الخارج فصلاحها عدلٌ لها وفسادها ظلمٌ لها قال تعالى: }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا{ [سورة فصلت آية: 46]، وقال تعالى: }إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا{ [سورة الإسراء آية: 7] قال بعض السلف: إن للحسنة لنورًا في القلب وقوةً في البدن وضياءً في الوجه وسعةً في الرزق ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة لظلمةً في القلب وسوادًا في الوجه ووهنًا في البدن ونقصًا في الرزق وبغضًا في قلوب الخلق. وقال تعالى: }كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ{ [سورة الطور آية: 21]، وقال تعالى: }كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ{ [سورة المدثر آية: 38] وقال: }وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا{ [سورة الأنعام آية: 70] وتبسل أي ترتهن وتحبس وتؤسر؛ كما أن الجسد إذا صح من مرضه قيل قد اعتدل مزاجه والمرض إنما هو انحراف المزاج مع أن الاعتدال المحض السالم من الأخلاط لا سبيل إليه لكن الأمثل؛ فالأمثل؛ فهكذا صحة القلب وصلاحه في العدل ومرضه من الزيغ والظلم والانحراف. والعدل المحض في كل شيءٍ متعذرٌ علمًا وعملًا ولكن الأمثل فالأمثل؛ ولهذا يقال: هذا أمثل ويقال للطريقة السلفية: الطريقة المثلى. وقال تعالى: }وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ{ [سورة النساء آية: 129] وقال تعالى: }وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا{ [سورة الأنعام آية: 152]. والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط وأعظم القسط عبادة الله وحده لا شريك له ثم العدل على الناس في حقوقهم ثم العدل على النفس.
    والظلم «ثلاثة أنواعٍ»: والظلم كله من أمراض القلوب والعدل صحتها وصلاحها. قال أحمد بن حنبلٍ لبعض الناس: لو صححت لم تخف أحدًا أي خوفك من المخلوق هو من مرضٍ فيك كمرض الشرك والذنوب. وأصل صلاح القلب هو حياته واستنارته قال تعالى: }أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا{ [سورة الأنعام آية: 122]. لذلك ذكر الله حياة القلوب ونورها وموتها وظلمتها في غير موضعٍ. كقوله: }لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ{ [سورة يس آية: 70] وقوله تعالى }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ{ ثم قال: }وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ{ [سورة الأنفال آية: 24]، وقال تعالى: }يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ{ [سورة الروم آية: 19].
    ومن أنواعه أنه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. وفي الحديث الصحيح «مثل البيت الّذي يذكر اللّه فيه والبيت الّذي لا يذكر اللّه فيه مثل الحيّ والميّت» وفي الصحيح أيضًا: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتّخذوها قبورًا». وقد قال تعالى: }وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ{ [سورة الأنعام آية: 39] وذكر سبحانه آية النور وآية الظلمة فقال: }اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ{ [سورة النور آية: 35] فهذا مثل نور الإيمان في قلوب المؤمنين ثم قال: }وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ{ [سورة النور آية: 39، 40].
    فالأول مثل الاعتقادات الفاسدة والأعمال التابعة لها يحسبها صاحبها شيئًا ينفعه فإذا جاءها لم يجدها شيئًا ينفعه فوفاه الله حسابه على تلك الأعمال.
    والثاني: مثلٌ للجهل البسيط وعدم الإيمان والعلم فإن صاحبها في ظلماتٍ بعضها فوق بعضٍ لا يبصر شيئًا؛ فإن البصر إنما هو بنور الإيمان والعلم. قال تعالى: }إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ{ [سورة الأعراف آية: 201] وقال تعالى. }وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ{ [سورة يوسف آية: 24] وهو برهان الإيمان الذي حصل في قلبه فصرف الله به ما كان هم به وكتب له حسنةً كاملةً ولم يكتب عليه خطيئةً إذ فعل خيرًا ولم يفعل سيئةً. وقال تعالى: }لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ{ [سورة إبراهيم آية: 1] وقال: }اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ{ [سورة البقرة آية: 257] وقال: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ{ [سورة الحديد آية: 28]. ولهذا ضرب الله للإيمان «مثلين». مثلًا بالماء الذي به الحياة وما يقترن به من الزبد ومثلًا بالنار التي بها النور وما يقترن بما يوقد عليه من الزبد. وكذلك ضرب الله للنفاق «مثلين» قال تعالى: }أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ{ [سورة الرعد آية: 17] وقال تعالى في المنافقين: }مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{ [سورة البقرة آية: 17- 20]. فضرب لهم مثلًا كالذي أوقد النار كلما أضاءت أطفأها الله والمثل المائي كالماء النازل من السماء وفيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ. ولبسط الكلام في هذه الأمثال موضعٌ آخر. وإنما المقصود هنا ذكر حياة القلوب وإنارتها، وفي الدعاء المأثور «اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا». و«الربيع» هو المطر الذي ينزل من السماء فينبت به النبات قال النبي r: «إنّ ممّا ينبت الرّبيع ما يقتل حبطًا أو يلمّ». والفصل الذي ينزل فيه أول المطر تسميه العرب الربيع لنزول المطر الذي ينبت الربيع فيه وغيرهم يسمي الربيع الفصل الذي يلي الشتاء؛ فإن فيه تخرج الأزهار التي تخلق منها الثمار وتنبت الأوراق على الأشجار.
    والقلب الحي المنور؛ لما فيه من النور يسمع ويبصر ويعقل والقلب الميت لا يسمع ولا يبصر. قال تعالى: }وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ{ [سورة البقرة آية: 171] وقال تعالى: }وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ{ [سورة يونس آية: 42، 43] وقال تعالى: }وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ{ [سورة الأنعام آية: 25] الآيات. فأخبر أنهم لا يفقهون بقلوبهم ولا يسمعون بآذانهم ولا يؤمنون بما رأوه من النار كما أخبر عنهم حيث قالوا: }قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ{ [سورة فصلت آية: 5]. فذكروا الموانع على القلوب، والسمع والأبصار وأبدانهم حيةٌ تسمع الأصوات وترى الأشخاص؛ لكن حياة البدن بدون حياة القلب من جنس حياة البهائم لها سمعٌ وبصرٌ وهي تأكل وتشرب وتنكح ولهذا قال تعالى: }وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً{ [سورة البقرة آية: 171]. فشبههم بالغنم الذي ينعق بها الراعي وهي لا تسمع إلا نداءً. كما قال في الآية الأخرى: }أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا{ [سورة الفرقان آية: 44] وقال تعالى: }وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ{ [سورة الأعراف آية: 179] فطائفةٌ من المفسرين تقول في هذه الآيات وما أشبهها كقوله: }وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ{ [سورة يونس آية: 12] وأمثالها مما ذكر الله في عيوب الإنسان وذمها فيقول هؤلاء: هذه الآية في الكفار والمراد بالإنسان هنا الكافر فيبقى من يسمع ذلك يظن أنه ليس لمن يظهر الإسلام في هذا الذم والوعيد نصيبٌ؛ بل يذهب وهمه إلى من كان مظهرًا للشرك من العرب أو إلى من يعرفهم من مظهري الكفر كاليهود والنصارى ومشركي الترك والهند. ونحو ذلك فلا ينتفع بهذه الآيات التي أنزلها الله ليهتدي بها عباده. فيقال -أولًا-: المظهرون للإسلام فيهم مؤمنٌ ومنافقٌ والمنافقون كثيرون في كل زمانٍ والمنافقون في الدرك الأسفل من النار. ويقال: «ثانيًا» الإنسان قد يكون عنده شعبةٌ من نفاقٍ وكفرٍ وإن كان معه إيمانٌ كما قال النبي r في الحديث المتفق عليه: «أربعٌ من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلةٌ منهنّ كانت فيه خصلةٌ من النّفاق حتّى يدعها: إذا حدّث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر»  فأخبر أنه من كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق. وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه قال لأبي ذرٍّ رضي الله عنه «إنّك امرؤٌ فيك جاهليّةٌ»  وأبو ذرٍّ - رضي الله عنه - من أصدق الناس إيمانًا وقال في الحديث الصحيح: «أربعٌ في أمّتي من أمر الجاهليّة: الفخر بالأحساب والطّعن في الأنساب والنّياحة والاستسقاء بالنّجوم»  وقال في الحديث الصحيح «لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة حتّى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه. قالوا: اليهود والنّصارى قال: فمن» وقال أيضًا في الحديث الصحيح: «لتأخذن أمّتي ما أخذت الأمم قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع. قالوا: فارس والرّوم قال: ومن النّاس إلّا هؤلاء». وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب محمدٍ - r - كلهم يخاف النفاق على نفسه وعن عليٍّ - أو حذيفة - رضي الله عنهما - قال: القلوب «أربعةٌ». قلبٌ أجرد فيه سراجٌ يزهر فذلك قلب المؤمن وقلبٌ أغلف فذاك قلب الكافر وقلبٌ منكوسٌ. فذاك قلب المنافق وقلبٌ فيه مادتان: مادةٌ تمده الإيمان ومادةٌ تمده النفاق فأولئك قومٌ خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا. وإذا عرف هذا علم أن كل عبدٍ ينتفع بما ذكر الله في الإيمان من مدح شعب الإيمان وذم شعب الكفر وهذا كما يقول بعضهم في قوله: }اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ{ [سورة الفاتحة آية: 6]. فيقولون المؤمن قد هدي إلى الصراط المستقيم فأي فائدةٍ في طلب الهدى ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى كما تقول العرب للنائم: نم حتى آتيك أو يقول بعضهم ألزم قلوبنا الهدى فحذف الملزوم ويقول بعضهم زدني هدًى وإنما يوردون هذا السؤال لعدم تصورهم الصراط المستقيم الذي يطلب العبد الهداية إليه؛ فإن المراد به العمل بما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه في جميع الأمور.
    والإنسان وإن كان أقر بأن محمدًا رسول الله وأن القرآن حقٌّ على سبيل الإجمال فأكثر ما يحتاج إليه من العلم بما ينفعه ويضره وما أمر به وما نهى عنه في تفاصيل الأمور وجزئياتها لم يعرفه وما عرفه فكثيرٌ منه لم يعلمه ولو قدر أنه بلغه كل أمرٍ ونهيٍ في القرآن والسنة فالقرآن والسنة إنما فيهما الأمور العامة والكلية لا يمكن غير ذلك لا يذكر ما يخص به كل عبدٍ ولهذا أمر الإنسان في مثل ذلك بسؤال الهدى إلى الصراط المستقيم. والهدى إلى الصراط المستقيم يتناول هذا كله يتناول التعريف بما جاء به الرسول مفصلًا ويتناول التعريف بما يدخل في أوامره الكليات ويتناول إلهام العمل بعلمه فإن مجرد العلم بالحق لا يحصل به الاهتداء إن لم يعمل علمه لهذا قال لنبيه بعد صلح الحديبية: }إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا{ [سورة الفتح آية: 1، 2] وقال في حق موسى وهارون: }وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ{ [سورة الصافات آية: 117، 118] .
    والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء الله من الأمور الخبرية والعلمية والاعتقادية والعملية مع أنهم كلهم متفقون على أن محمدًا حقٌّ والقرآن حقٌّ فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا ثم الذين علموا ما أمر الله به أكثرهم يعصونه و[لا] يحتذون حذوه فلو هدوا إلى الصراط المستقيم في تلك الأعمال لفعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهوا عنه والذين هداهم الله من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء الله المتقين كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم الله بهذا الدعاء في كل صلاةٍ مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الله دائمًا في أن يهديهم إلى الصراط المستقيم. فبدوام هذا الدعاء والافتقار صاروا من أولياء الله المتقين. قال سهل بن عبد الله التستري ليس بين العبد وبين ربه طريقٌ أقرب إليه من الافتقار وما حصل فيه الهدى في الماضي فهو محتاجٌ إلى حصول الهدى فيه في المستقبل وهذا حقيقة قول من يقول: ثبتنا واهدنا لزوم الصراط. وقول من قال: زدنا هدًى يتناول ما تقدم؛ لكن هذا كله هدًى منه في المستقبل إلى الصراط المستقيم؛ فإن العمل في المستقبل بالعلم لم يحصل بعد ولا يكون مهتديًا حتى يعمل في المستقبل بالعلم وقد لا يحصل العلم في المستقبل بل يزول عن القلب وإن حصل فقد لا يحصل العمل فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء؛ ولهذا فرضه الله عليهم في كل صلاةٍ فليسوا إلى شيءٍ من الدعاء أحوج منهم إليه وإذا حصل الهدى إلى الصراط المستقيم حصل النصر والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة والله أعلم.
    واعلم أن حياة القلب وحياة غيره ليست مجرد الحس والحركة الإرادية أو مجرد العلم والقدرة كما يظن ذلك طائفةٌ من النظار في علم الله وقدرته كأبي الحسين البصري. قالوا: إن حياته أنه بحيث يعلم ويقدر بل الحياة صفةٌ قائمةٌ بالموصوف وهي شرطٌ في العلم والإرادة والقدرة على الأفعال الاختيارية وهي أيضًا مستلزمةٌ لذلك فكل حيٍّ له شعورٌ وإرادةٌ وعملٌ اختياريٌّ بقدرة وكل ما له علمٌ وإرادةٌ وعملٌ اختياريٌّ فهو حيٌّ. والحياء مشتقٌّ من الحياة؛ فإن القلب الحي يكون صالحًا حيًّا فيه حياءً يمنعه عن القبائح فإن حياة القلب هي المانعة من القبائح التي تفسد القلب ولهذا قال النبي r «الحياء من الإيمان»  وقال: «الحياء والعيّ شعبتان من الإيمان. والبذاء والبيان شعبتان من النّفاق» فإن الحي يدفع ما يؤذيه؛ بخلاف الميت الذي لا حياة فيه [فإنه] يسمى وقحًا والوقاحة الصلابة وهو اليبس المخالف لرطوبة الحياة فإذا كان وقحًا يابسًا صليب الوجه لم يكن في قلبه حياةٌ توجب حياءه، وامتناعه من القبح كالأرض اليابسة لا يؤثر فيها وطء الأقدام بخلاف الأرض الخضرة. ولهذا كان الحيي يظهر عليه التأثر بالقبح وله إرادةٌ تمنعه عن فعل القبيح بخلاف الوقح الذي ليس بحيي فإنه لا حياء معه ولا إيمان يزجره عن ذلك. فالقلب إذا كان حيًّا فمات الإنسان بفراق روحه بدنه كان موت النفس فراقها للبدن ليست هي في نفسها ميتةً بمعنى زوال حياتها عنها. ولهذا قال تعالى: }وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ{ [سورة البقرة آية: 154] وقال تعالى: }وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ{ [سورة آل عمران آية: 169] مع أنهم موتى داخلون في قوله: }كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ{ [سورة آل عمران آية: 185] وفي قوله: }إنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ{ [سورة الزمر آية: 30] وقوله: }وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ{ [سورة الحج آية: 66] فالموت المثبت غير الموت المنفي. المثبت هو فراق الروح البدن والمنفي زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن. وهذا كما أن النوم أخو الموت فيسمى وفاةً ويسمى موتًا وكانت الحياة موجودةً فيهما. قال الله تعالى: }اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى{ [سورة الزمر آية: 42]. وكان «النّبيّ r إذا استيقظ من منامه يقول: الحمد للّه الّذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور»  وفي حديثٍ آخر: «الحمد للّه الّذي ردّ عليّ روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره وفضّلني على كثيرٍ ممّن خلق تفضيلًا» وإذا أوى إلى فراشه يقول: «اللّهمّ أنت خلقت نفسي وأنت توفّاها لك مماتها ومحياها إن أمسكتها فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصّالحين»  ويقول: «باسمك اللّهمّ أموت وأحيا»

    فصلٌ
    ومن أمراض القلوب «الحسد»
    كما قال بعضهم في حده: إنه أذًى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأغنياء فلا يجوز أن يكون الفاضل حسودًا؛ لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل وقد قال طائفةٌ من الناس: إنه تمني زوال النعمة عن المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها بخلاف الغبطة فإنه تمني مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط. والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود وهو نوعان: أحدهما كراهةٌ للنعمة عليه مطلقًا فهذا هو الحسد المذموم وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه فيكون ذلك مرضًا في قلبه ويلتذ بزوال النعمة عنه وإن لم يحصل له نفعٌ بزوالها؛ لكن نفعه زوال الألم الذي كان في نفسه ولكن ذلك الألم لم يزل إلا بمباشرة منه وهو راحةٌ وأشده كالمريض الذي عولج بما يسكن وجعه والمرض باقٍ؛ فإن بغضه لنعمة الله على عبده مرضٌ فإن تلك النعمة قد تعود على المحسود وأعظم منها وقد يحصل نظير تلك النعمة لنظير ذلك المحسود. والحاسد ليس له غرضٌ في شيءٍ معينٍ؛ لكن نفسه تكره ما أنعم به على النوع. ولهذا قال من قال: إنه تمني زوال النعمة فإن من كره النعمة على غيره تمنى زوالها بقلبه.
    والنوع الثاني: أن يكره فضل ذلك الشخص عليه فيحب أن يكون مثله أو أفضل منه فهذا حسدٌ وهو الذي سموه الغبطة وقد سماه النبي r حسدًا في الحديث المتفق عليه من حديث ابن مسعودٍ وابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «لا حسد إلّا في اثنتين: رجلٌ آتاه اللّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها ورجلٌ آتاه اللّه مالًا وسلّطه على هلكته في الحقّ»  هذا لفظ ابن مسعود. ولفظ ابن عمر «رجلٌ آتاه اللّه القرآن فهو يقوم به آناء اللّيل والنّهار ورجلٌ آتاه اللّه مالًا فهو ينفق منه في الحقّ آناء اللّيل والنّهار» ورواه البخاري من حديث أبي هريرة ولفظه: «لا حسد إلّا في اثنتين رجلٌ آتاه اللّه القرآن فهو يتلوه اللّيل والنّهار فسمعه رجلٌ فقال: يا ليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا فعملت فيه مثل ما يعمل هذا ورجلٌ آتاه اللّه مالًا فهو ينفق منه في الحقّ فقال رجلٌ: يا ليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا فعملت فيه مثل ما يعمل هذا» فهذا الحسد الذي نهى عنه النبي r إلا في موضعين هو الذي سماه أولئك الغبطة وهو أن يحب مثل حال الغير ويكره أن يفضل عليه. فإن قيل: إذًا لم سمي حسدًا وإنما أحب أن ينعم الله عليه ؟. قيل مبدأ هذا الحب هو نظره إلى إنعامه على الغير وكراهته أن يتفضل عليه ولولا وجود ذلك الغير لم يحب ذلك فلما كان مبدأ ذلك كراهته أن يتفضل عليه الغير كان حسدًا؛ لأنه كراهةٌ تتبعها محبةٌ وأما من أحب أن ينعم الله عليه مع عدم التفاته إلى أحوال الناس فهذا ليس عنده من الحسد شيءٌ. ولهذا يبتلى غالب الناس بهذا القسم الثاني وقد تسمى المنافسة فيتنافس الاثنان في الأمر المحبوب المطلوب كلاهما يطلب أن يأخذه وذلك لكراهية أحدهما أن يتفضل عليه الآخر كما يكره المستبقان كلٌّ منهما أن يسبقه الآخر والتنافس ليس مذمومًا مطلقًا بل هو محمودٌ في الخير. قال تعالى: }إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ{ [سورة المطففين آية: 22- 26] فأمر المنافس أن ينافس في هذا النعيم ولا ينافس في نعيم الدنيا الزائل وهذا موافقٌ لحديث النبي r فإنه نهى عن الحسد إلا فيمن أوتي العلم فهو يعمل به ويعلمه ومن أوتي المال فهو ينفقه فأما من أوتي علمًا ولم يعمل به ولم يعلمه أو أوتي مالًا ولم ينفقه في طاعة الله فهذا لا يحسد ولا يتمنى مثل حاله فإنه ليس في خيرٍ يرغب فيه بل هو معرضٌ للعذاب ومن ولي ولايةً فيأتيها بعلم وعدلٍ أدى الأمانات إلى أهلها وحكم بين الناس بالكتاب والسنة فهذا درجته عظيمةٌ؛ لكن هذا في جهادٍ عظيمٍ كذلك المجاهد في سبيل الله. والنفوس لا تحسد من هو في تعبٍ عظيمٍ فلهذا لم يذكره وإن كان المجاهد في سبيل الله أفضل من الذي ينفق المال؛ بخلاف المنفق والمعلم فإن هذين ليس لهم في العادة عدوٌّ من خارجٍ فإن قدر أنهما لهما عدوٌّ يجاهدانه. فذلك أفضل لدرجتهما وكذلك لم يذكر النبي r المصلي والصائم والحاج؛ لأن هذه الأعمال لا يحصل منها في العادة من نفع الناس الذي يعظمون به الشخص ويسودونه ما يحصل بالتعليم والإنفاق.
    والحسد في الأصل إنما يقع لما يحصل للغير من السؤدد والرياسة وإلا فالعامل لا يحسد في العادة ولو كان تنعمه بالأكل والشرب والنكاح أكثر من غيره بخلاف هذين النوعين فإنهما يحسدان كثيرًا ولهذا يوجد بين أهل العلم الذين لهم أتباعٌ من الحسد ما لا يوجد فيمن ليس كذلك وكذلك فيمن له أتباعٌ بسبب إنفاق ماله فهذا ينفع الناس بقوت القلوب وهذا ينفعهم بقوت الأبدان والناس كلهم محتاجون إلى ما يصلحهم من هذا وهذا. ولهذا ضرب الله سبحانه «مثلين»: مثلًا بهذا ومثلًا بهذا فقال: }ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ{ [سورة النحل آية: 75، 76]. والمثلان ضربهما الله سبحانه لنفسه المقدسة ولما يعبد من دونه؛ فإن الأوثان لا تقدر لا على عملٍ ينفع ولا على كلامٍ ينفع فإذا قدر عبدٌ مملوكٌ لا يقدر على شيءٍ وآخر قد رزقه الله رزقًا حسنًا فهو ينفق منه سرًّا وجهرًا هل يستوي هذا المملوك العاجز عن الإحسان وهذا القادر على الإحسان المحسن إلى الناس سرًّا وجهرًا وهو سبحانه قادرٌ على الإحسان إلى عباده وهو محسنٌ إليهم دائمًا فكيف يشبه به العاجز المملوك الذي لا يقدر على شيءٍ حتى يشرك به معه وهذا مثل الذي أعطاه الله مالًا فهو ينفق منه آناء الليل والنهار. والمثل الثاني إذا قدر شخصان أحدهما أبكم لا يعقل ولا يتكلم ولا يقدر على شيءٍ وهو مع هذا كلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخيرٍ فليس فيه من نفعٍ قط بل هو كلٌّ على من يتولى أمره وآخر عالمٌ عادلٌ يأمر بالعدل ويعمل بالعدل فهو على صراطٍ مستقيمٍ. وهذا نظير الذي أعطاه الله الحكمة فهو يعمل بها ويعلمها الناس. وقد ضرب ذلك مثلًا لنفسه؛ فإنه سبحانه عالمٌ عادلٌ قادرٌ يأمر بالعدل وهو قائمٌ بالقسط على صراطٍ مستقيمٍ. كما قال تعالى: }شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ [سورة آل عمران آية: 18] وقال هودٌ: }إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ{ [سورة هود آية: 56]. ولهذا كان الناس يعظمون دار العباس كان عبد الله يعلم الناس وأخوه يطعم الناس فكانوا يعظمون على ذلك. ورأى معاوية الناس يسألون ابن عمر عن المناسك وهو يفتيهم فقال: هذا والله الشرف أو نحو ذلك.

    المنافسة بين الصديق وعمر
     هذا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه نافس أبا بكرٍ رضي الله عنه الإنفاق كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «أمرنا رسول اللّه r أن نتصدّق فوافق ذلك مالًا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكرٍ إن سبقته يومًا. قال: فجئت بنصف مالي قال: فقال لي رسول اللّه r: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكرٍ رضي اللّه عنه بكلّ ما عنده فقال له
    رسول اللّه
    r: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم اللّه ورسوله. فقلت: لا أسابقك إلى شيءٍ أبدًا». فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة؛ لكن حال الصديق رضي الله عنه أفضل منه وهو خالٍ من المنافسة مطلقًا لا ينظر إلى حال غيره. وكذلك «موسى r في حديث المعراج حصل له منافسةٌ وغبطةٌ للنّبيّ r حتّى بكى لمّا تجاوزه النّبيّ r فقيل له: ما يبكيك ؟ فقال: أبكي؛ لأنّ غلامًا بعث بعدي يدخل الجنّة من أمّته أكثر ممّن يدخلها من أمّتي» أخرجاه في الصحيحين وروي في بعض الألفاظ المروية غير الصحيح «مررنا على رجلٍ وهو يقول ويرفع صوته: أكرمته وفضّلته. قال: فرفعنا إليه فسلّمنا عليه فردّ السّلام فقال: من هذا معك يا جبريل ؟ قال: هذا أحمد قال: مرحبًا بالنّبيّ الأمّيّ الّذي بلّغ رسالة ربّه ونصح لأمّته قال: ثمّ اندفعنا، فقلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا موسى بن عمران قلت: ومن يعاتب ؟ قال: يعاتب ربّه فيك. قلت: ويرفع صوته على ربّه قال: إنّ اللّه عزّ وجلّ قد عرف صدقه». وعمر رضي الله عنه كان مشبهًا بموسى ونبينا حاله أفضل من حال موسى فإنه لم يكن عنده شيءٌ من ذلك. وكذلك كان في الصحابة أبو عبيدة بن الجراح ونحوه كانوا سالمين من جميع هذه الأمور فكانوا أرفع درجةً ممن عنده منافسةٌ وغبطةٌ وإن كان ذلك مباحًا ولهذا استحق أبو عبيدة رضي الله عنه أن يكون أمين هذه الأمة فإن المؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمةٌ على شيءٍ مما اؤتمن عليه كان أحق بالأمانة ممن يخاف مزاحمته؛ ولهذا يؤتمن على النساء والصبيان الخصيان ويؤتمن على الولاية الصغرى من يعرف أنه لا يزاحم على الكبرى ويؤتمن على المال من يعرف أنه ليس له غرضٌ في أخذ شيءٍ منه وإذا اؤتمن من في نفسه خيانةٌ شبه بالذئب المؤتمن على الغنم فلا يقدر أن يؤدي الأمانة في ذلك لما في نفسه من الطلب لما اؤتمن عليه. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن «أنسٍ رضي اللّه عنه قال: كنّا يومًا جلوسًا عند رسول اللّه r فقال: يطلع عليكم الآن من هذا الفجّ رجلٌ من أهل الجنّة قال: فطلع رجلٌ من الأنصار تنطف لحيته من وضوءٍ قد علّق نعليه في يده الشّمال فسلّم فلمّا كان الغد قال النّبيّ r مثل ذلك فطلع ذلك الرّجل على حاله فلمّا كان اليوم الثّالث قال النّبيّ r مقالته فطلع ذلك الرّجل على مثل حاله فلمّا قام النّبيّ r اتّبعه عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه فقال: إنّي لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثًا فإن رأيت أن تؤويني إليك حتّى تمضي الثّلاث فعلت قال: نعم قال أنسٌ رضي اللّه عنه فكان عبد اللّه يحدّث أنّه بات عنده ثلاث ليالٍ فلم يره يقوم من اللّيل شيئًا؛ غير أنّه إذا تعارّ وانقلب على فراشه ذكر اللّه عزّ وجلّ وكبّر حتّى يقوم إلى صلاة الفجر فقال عبد اللّه غير أنّي لم أسمعه يقول إلّا خيرًا فلمّا فرغنا من الثّلاث وكدت أن أحقّر عمله قلت: يا عبد اللّه لم يكن بيني وبين والدي غضبٌ ولا هجرةٌ ولكن سمعت رسول اللّه r يقول ثلاث مرّاتٍ يطلع عليكم رجلٌ من أهل الجنّة فطلعت أنت في الثّلاث المرّاتٍ فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي بذلك فلم أرك تعمل كثير عملٍ فما الّذي بلغ بك ما قال رسول اللّه r ؟ قال: ما هو إلّا ما رأيت غير أنّني لا أجد على أحدٍ من المسلمين في نفسي غشًّا ولا حسدًا على خيرٍ أعطاه اللّه إيّاه قال عبد اللّه هذه الّتي بلغت بك وهي الّتي لا نطيق». فقول عبد الله بن عمرٍو له هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق يشير إلى خلوه وسلامته من جميع أنواع الحسد. وبهذا أثنى الله تعالى على الأنصار فقال: }وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ{ [سورة الحشر آية: 9] أي مما أوتي إخوانهم المهاجرون قال المفسرون لا يجدون في صدورهم حاجةً أي حسدًا وغيظًا مما أوتي المهاجرون ثم قال بعضهم من مال الفيء وقيل من الفضل والتقدم فهم لا يجدون حاجةً مما أوتوا من المال ولا من الجاه والحسد يقع على هذا. وكان بين الأوس والخزرج منافسةٌ على الدين فكان هؤلاء إذا فعلوا ما يفضلون به عند الله ورسوله أحب الآخرون أن يفعلوا نظير ذلك فهو منافسةٌ فيما يقربهم إلى الله كما قال: }وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ{ [سورة المطففين آية: 26].
    وأما الحسد المذموم كله فقد قال تعالى في حق اليهود: }وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ{ [سورة البقرة آية: 109] يودون أي يتمنون ارتدادكم حسدًا فجعل الحسد هو الموجب لذلك الود من بعد ما تبين لهم الحق؛ لأنهم لما رأوا أنكم قد حصل لكم من النعمة ما حصل- بل ما لم يحصل لهم مثله- حسدوكم وكذلك في الآية الأخرى: }أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا{ [سورة النساء آية: 54، 55] وقال تعالى: }قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ{ [سورة الفلق آية: 1- 5]. وقد ذكر طائفةٌ من المفسرين أنها نزلت بسبب حسد اليهود للنبي r حتى سحروه؛ سحره لبيد بن الأعصم اليهودي فالحاسد المبغض للنعمة على من أنعم الله عليه بها ظالمٌ معتدٍ والكاره لتفضيله المحب لمماثلته منهيٌّ عن ذلك إلا فيما يقربه إلى الله فإذا أحب أن يعطى مثل ما أعطي مما يقربه إلى الله فهذا لا بأس به وإعراض قلبه عن هذا بحيث لا ينظر إلى حال الغير أفضل. ثم هذا الحسد إن عمل بموجبه صاحبه كان ظالمًا معتديًا مستحقًّا للعقوبة إلا أن يتوب وكان المحسود مظلومًا مأمورًا بالصبر والتقوى فيصبر على أذى الحاسد ويعفو ويصفح عنه كما قال تعالى: }وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ{ [سورة البقرة آية: 109] وقد ابتلي يوسف بحسد إخوته له حيث قالوا: }لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ{ [سورة يوسف آية: 8] فحسدوهما على تفضيل الأب لهما ولهذا قال يعقوب ليوسف: }يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ{ [سورة يوسف آية: 5]. ثم إنهم ظلموه بتكلمهم في قتله وإلقائه في الجب وبيعه رقيقًا لمن ذهب به إلى بلاد الكفر فصار مملوكًا لقوم كفارٍ ثم إن يوسف ابتلي -بعد أن ظلم- بمن يدعوه إلى الفاحشة ويراود عليها ويستعين عليه بمن يعينه على ذلك فاستعصم واختار السجن على الفاحشة وآثر عذاب الدنيا على سخط الله فكان مظلومًا من جهة من أحبه لهواه وغرضه الفاسد. فهذه المحبة أحبته لهوى محبوبها، شفاؤها وشقاؤها إن وافقها وأولئك المبغضون أبغضوه بغضةً أوجبت أن يصير ملقًى في الجب ثم أسيرًا مملوكًا بغير اختياره فأولئك أخرجوه من إطلاق الحرية إلى رق العبودية الباطلة بغير اختياره وهذه ألجأته إلى أن اختار أن يكون محبوسًا مسجونًا باختياره فكانت هذه أعظم في محنته وكان صبره هنا صبرًا اختياريًّا اقترن به التقوى بخلاف صبره على ظلمهم فإن ذلك كان من باب المصائب التي من لم يصبر عليها صبر الكرام سلا سلو البهائم. والصبر الثاني أفضل الصبرين؛ ولهذا قال تعالى: }إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ{ [سورة يوسف آية: 90].
     وهكذا إذا أوذي المؤمن على إيمانه وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان -وإن لم يفعل أوذي وعوقب- فاختار الأذى والعقوبة على فراق دينه: إما الحبس وإما الخروج من بلده كما جرى للمهاجرين حيث اختاروا فراق الأوطان على فراق الدين وكانوا يعذبون ويؤذون. وقد أوذي النبي r بأنواع من الأذى فكان يصبر عليها صبرًا اختياريًّا فإنه إنما يؤذى لئلا يفعل ما يفعله باختياره وكان هذا أعظم من صبر يوسف: لأن يوسف إنما طلب منه الفاحشة وإنما عوقب -إذا لم يفعل- بالحبس والنبي r وأصحابه طلب منهم الكفر وإذا لم يفعلوا طلبت عقوبتهم بالقتل فما دونه وأهون ما عوقب به الحبس فإن المشركين حبسوه وبني هاشمٍ بالشعب مدةً ثم لما مات أبو طالبٍ اشتدوا عليه فلما بايعت الأنصار وعرفوا بذلك صاروا يقصدون منعه من الخروج ويحبسونه هو وأصحابه عن ذلك ولم يكن أحدٌ يهاجر إلا سرًّا إلا عمر بن الخطاب ونحوه فكانوا قد ألجئوهم إلى الخروج من ديارهم ومع هذا منعوا من منعوه منهم عن ذلك وحبسوه. فكان ما حصل للمؤمنين من الأذى والمصائب هو باختيارهم طاعةً لله ورسوله لم يكن من المصائب السماوية التي تجري بدون اختيار العبد من جنس حبس يوسف لا من جنس التفريق بينه وبين أبيه وهذا أشرف النوعين وأهلها أعظم درجةً - وإن كان صاحب المصائب يثاب على صبره ورضاه وتكفر عنه الذنوب بمصائبه - فإن هذا أصيب وأوذي باختياره طاعةً لله يثاب على نفس المصائب ويكتب له بها عملٌ صالحٌ. قال تعالى: }ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ{ [سورة التوبة آية: 120]. بخلاف المصائب التي تجري بلا اختيار العبد كالمرض وموت العزيز عليه وأخذ اللصوص ماله فإن تلك إنما يثاب على الصبر عليها لا على نفس ما يحدث من المصيبة؛ لكن المصيبة يكفر بها خطاياه فإن الثواب إنما يكون على الأعمال الاختيارية وما يتولد عنها. والذين يؤذون على الإيمان وطاعة الله ورسوله ويحدث لهم بسبب ذلك حرجٌ أو مرضٌ أو حبسٌ أو فراق وطنٍ وذهاب مالٍ وأهلٍ أو ضربٌ أو شتمٌ أو نقص رياسةٍ ومالٍ هم في ذلك على طريقة الأنبياء وأتباعهم كالمهاجرين الأولين فهؤلاء يثابون على ما يؤذون به ويكتب لهم به عملٌ صالحٌ كما يثاب المجاهد على ما يصيبه من الجوع والعطش والتعب وعلى غيظه الكفار وإن كانت هذه الآثار ليست عملًا فعله يقوم به لكنها متسببةٌ عن فعله الاختياري وهي التي يقال لها متولدةٌ. وقد اختلف الناس هل يقال إنها فعلٌ لفاعل السبب أو لله أو لا فاعل لها؟ والصحيح أنها مشتركةٌ بين فاعل السبب وسائر الأسباب ولهذا كتب له بها عملٌ صالحٌ.
     والمقصود أن «الحسد» مرضٌ من أمراض النفس وهو مرضٌ غالبٌ فلا يخلص منه إلا قليلٌ من الناس ولهذا يقال: ما خلا جسدٌ من حسدٍ لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه. وقد قيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن ؟ فقال ما أنساك إخوة يوسف لا أبا لك؟ ولكن عمه في صدرك فإنه لا يضرك ما لم تعد به يدًا ولسانًا. فمن وجد في نفسه حسدًا لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر. فيكره ذلك من نفسه وكثيرٌ من الناس الذين عندهم دينٌ لا يعتدون على المحسود فلا يعينون من ظلمه ولكنهم أيضًا لا يقومون بما يجب من حقه بل إذا ذمه أحدٌ لم يوافقوه على ذمه ولا يذكرون محامده وكذلك لو مدحه أحدٌ لسكتوا وهؤلاء مدينون في ترك المأمور في حقه مفرطون في ذلك؛ لا معتدون عليه وجزاؤهم أنهم يبخسون حقوقهم فلا ينصفون أيضًا في مواضع ولا ينصرون على من ظلمهم كما لم ينصروا هذا المحسود وأما من اعتدى بقول أو فعلٍ فذلك يعاقب. ومن اتقى الله وصبر فلم يدخل في الظالمين نفعه الله بتقواه: كما جرى لزينب بنت جحشٍ - رضي الله عنها - فإنها كانت هي التي تسامي عائشة من أزواج النبي - r - وحسد النساء بعضهن لبعض كثيرٌ غالبٌ لا سيما المتزوجات بزوج واحدٍ فإن المرأة تغار على زوجها لحظها منه فإنه بسبب المشاركة يفوت بعض حظها. وهكذا الحسد يقع كثيرًا بين المتشاركين في رئاسةٍ أو مالٍ إذا أخذ بعضهم قسطًا من ذلك وفات الآخر؛ ويكون بين النظراء لكراهة أحدهما أن يفضل الآخر عليه كحسد إخوة يوسف كحسد ابني آدم أحدهما لأخيه فإنه حسده لكون أن الله تقبل قربانه ولم يتقبل قربان هذا؛ فحسده على ما فضله الله من الإيمان والتقوى وقتله على ذلك.
    وكحسد اليهود للمسلمين؛ ولهذا قيل: أول ذنبٍ عصي الله به ثلاثةٌ: الحرص والكبر والحسد. فالحرص من آدم والكبر من إبليس والحسد من قابيل حيث قتل هابيل. وفي الحديث «ثلاثٌ لا ينجو منهنّ أحدٌ: الحسد والظّنّ والطّيرة. وسأحدّثكم بما يخرج من ذلك إذا حسدت فلا تبغض وإذا ظننت فلا تحقّق وإذا تطيّرت فامض»  رواه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة. وفي السنن عن النبي r «دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء وهي الحالقة لا أقول تحلق الشّعر ولكن تحلق الدّين» فسماه داءً كما سمى البخل داءً في قوله: «وأيّ داءٍ أدوأ من البخل»  فعلم أن هذا مرضٌ وقد جاء في حديثٍ آخر «أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء» فعطف الأدواء على الأخلاق والأهواء. فإن «الخلق» ما صار عادةً للنفس وسجيةً. قال تعالى: }وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ{ [سورة القلم آية: 4] قال ابن عباسٍ وابن عيينة وأحمد بن حنبلٍ رضي الله عنهم: على دينٍ عظيمٍ وفي لفظٍ عن ابن عباسٍ: على دين الإسلام. وكذلك قالت عائشة - رضي الله عنها -: كان خلقه القرآن. وكذلك قال الحسن البصري: أدب القرآن هو الخلق العظيم. وأما «الهوى» فقد يكون عارضًا والداء هو المرض وهو تألم القلب والفساد فيه وقرن في الحديث الأول الحسد بالبغضاء؛ لأن الحاسد يكره أولًا فضل الله على ذلك الغير؛ ثم ينتقل إلى بغضه؛ فإن بغض اللازم يقتضي بغض الملزوم فإن نعمة الله إذا كانت لازمةً وهو يحب زوالها وهي لا تزول إلا بزواله أبغضه وأحب عدمه والحسد يوجب البغي كما أخبر الله تعالى عمن قبلنا: أنهم اختلفوا } مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ { فلم يكن اختلافهم لعدم العلم بل علموا الحق ولكن بغى بعضهم على بعضٍ كما يبغي الحاسد على المحسود. وفي الصحيحين عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أن النبي r قال: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا؛ ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد اللّه إخوانًا ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ: يلتقيان فيصدّ هذا ويصدّ هذا وخيرهما الّذي يبدأ بالسّلام»  وقد قال r في الحديث المتفق على صحته من رواية أنسٍ أيضًا «والّذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه». وقد قال تعالى: }وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا{ [سورة النساء آية: 72، 73]. فهؤلاء المبطئون لم يحبوا لإخوانهم المؤمنين ما يحبون لأنفسهم بل إن أصابتهم مصيبةٌ فرحوا باختصاصهم وإن أصابتهم نعمةٌ لم يفرحوا لهم بها بل أحبوا أن يكون لهم منها حظٌّ فهم لا يفرحون إلا بدنيا تحصل لهم أو شرٍّ دنيويٍّ ينصرف عنهم إذا كانوا لا يحبون الله ورسوله والدار الآخرة ولو كانوا كذلك لأحبوا إخوانهم وأحبوا ما وصل إليهم من فضله وتألموا بما يصيبهم من المصيبة ومن لم يسره ما يسر المؤمنين ويسوؤه ما يسوء المؤمنين فليس منهم. ففي الصحيحين عن عامرٍ قال: سمعت النعمان بن بشيرٍ يخطب ويقول: «سمعت رسول اللّه r يقول: مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد. إذا اشتكى منه شيءٌ تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسّهر»  وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «قال رسول اللّه r: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا وشبّك بين أصابعه».
     والشح مرضٌ والبخل مرضٌ والحسد شرٌّ من البخل كما في الحديث الذي رواه أبو داود عن النبي r أنه قال: «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب والصّدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النّار» وذلك أن البخيل يمنع نفسه والحسود يكره نعمة الله على عباده وقد يكون في الرجل إعطاءٌ لمن يعينه على أغراضه وحسدٌ لنظرائه وقد يكون فيه بخلٌ بلا حسدٍ لغيره والشح أصل ذلك. قال تعالى: }وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [سورة الحشر آية: 9] وفي الصحيحين عن النبي r أنه قال: «إيّاكم والشّحّ فإنّه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالظّلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا» وكان عبد الرحمن بن عوفٍ يكثر من الدعاء في طوافه يقول: اللهم قني شح نفسي فقال له رجلٌ: ما أكثر ما تدعو بهذا؟ فقال: إذا وقيت شح نفسي وقيت الشح والظلم والقطيعة. والحسد يوجب الظلم.


    فصل في مرض الشهوة والعشق
    فصل فالبخل والحسد مرضٌ يوجب بغض النفس لما ينفعها بل وحبها لما يضرها ولهذا يقرن الحسد بالحقد والغضب وأما مرض الشهوة والعشق فهو حب النفس لما يضرها وقد يقترن به بغضها لما ينفعها والعشق مرضٌ نفسانيٌّ وإذا قوي أثره في البدن فصار مرضًا في الجسم إما من أمراض الدماغ كالماليخوليا؛ ولذلك قيل فيه: هو مرضٌ وسواسيٌّ شبيهٌ بالماليخوليا وإما من أمراض البدن كالضعف والنحول ونحو ذلك. والمقصود هنا «مرض القلب» فإنه أصل في محبة النفس لما يضرها كالمريض البدن الذي يشتهي ما يضره وإذا لم يطعم ذلك تألم وإن أطعم ذلك قوي به المرض وزاد. كذلك العاشق يضره اتصاله بالمعشوق مشاهدةً وملامسةً وسماعًا بل ويضره التفكير فيه والتخيل له وهو يشتهي ذلك فإن منع من مشتهاه تألم وتعذب وإن أعطي مشتهاه قوي مرضه وكان سببًا لزيادة الألم. وفي الحديث: «أنّ اللّه يحمي عبده المؤمن الدّنيا كما يحمي أحدكم مريضه الطّعام والشّراب» وفي مناجاة موسى المأثورة عن وهبٍ التي رواها الإمام أحمد في «كتاب الزهد» «يقول اللّه تعالى: إنّي لأذود أوليائي عن نعيم الدّنيا ورخائها كما يذود الرّاعي الشّفيق إبله عن مراتع الهلكة. وإنّي لأجنّبهم سكونها وعيشها كما يجنّب الرّاعي الشّفيق إبله عن مبارك الغرّة وما ذلك لهوانهم عليّ ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالمًا موفّرًا لم تكلّمه الدّنيا ولم يطفئه الهوى». وإنما شفاء المريض بزوال مرضه بل بزوال ذلك الحب المذموم من قلبه. والناس في العشق على قولين: قيل إنه من باب الإرادات وهذا هو المشهور. وقيل: من باب التصورات وأنه فسادٌ في التخييل حيث يتصور المعشوق على (غير) ما هو به قال هؤلاء: ولهذا لا يوصف الله بالعشق ولا أنه يعشق؛ لأنه منزهٌ عن ذلك ولا يحمد من يتخيل فيه خيالًا فاسدًا. وأما الأولون فمنهم من قال: يوصف بالعشق فإنه المحبة التامة؛ والله يحب ويحب وروي في أثرٍ عن عبد الواحد بن زيدٍ أنه قال: «لا يزال عبدي يتقرّب إليّ يعشقني وأعشقه» وهذا قول بعض الصوفية. والجمهور لا يطلقون هذا اللفظ في حق الله؛ لأن العشق هو المحبة المفرطة الزائدة على الحد الذي ينبغي والله تعالى محبته لا نهاية لها فليست تنتهي إلى حدٍّ لا تنبغي مجاوزته. قال هؤلاء: والعشق مذمومٌ مطلقًا لا يمدح في محبة الخالق ولا المخلوق لأنه المحبة المفرطة الزائدة على الحد المحمود.
     وأيضًا فإن لفظ «العشق» إنما يستعمل في العرف في محبة الإنسان لامرأةٍ أو صبيٍّ لا يستعمل في محبةٍ كمحبة الأهل والمال والجاه ومحبة الأنبياء والصالحين وهو مقرونٌ كثيرًا بالفعل المحرم: إما بمحبة امرأةٍ أجنبيةٍ أو صبيٍّ يقترن به النظر المحرم واللمس المحرم وغير ذلك من الأفعال المحرمة. وأما محبة الرجل لامرأته أو سريته [محبةً] تخرجه عن العدل بحيث يفعل لأجلها ما لا يحل ويترك ما يجب -كما هو الواقع كثيرًا- حتى يظلم ابنه من امرأته العتيقة؛ لمحبته الجديدة وحتى يفعل من مطالبها المذمومة ما يضره في دينه ودنياه مثل أن يخصها بميراث لا تستحقه أو يعطي أهلها من الولاية والمال ما يتعدى به حدود الله أو يسرف في الإنفاق عليها أو يمكنها من أمورٍ محرمةٍ تضره في دينه ودنياه -وهذا في عشق من يباح له وطؤها. فكيف عشق الأجنبية والذكران من العالمين- ففيه من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد وهو من الأمراض التي تفسد دين صاحبها وعرضه ثم قد تفسد عقله ثم جسمه. قال تعالى: }فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ{ [سورة الأحزاب آية: 32]. ومن في قلبه مرض الشهوة وإرادة الصورة متى خضع المطلوب طمع المريض والطمع يقوي الإرادة والطلب ويقوي المرض بذلك بخلاف ما إذا كان آيسًا من المطلوب فإن اليأس يزيل الطمع فتضعف الإرادة فيضعف الحب فإن الإنسان لا يريد أن يطلب ما هو آيسٌ منه فلا يكون مع الإرادة عملٌ أصلًا بل يكون حديث نفسٍ إلا أن يقترن بذلك كلامٌ أو نظرٌ ونحو ذلك فيأثم بذلك. فأما إذا ابتلي بالعشق وعف وصبر فإنه يثاب على تقواه لله وقد روي في الحديث: «أنّ من عشق فعفّ وكتم وصبر ثمّ مات كان شهيدًا» وهو معروفٌ من رواية يحيى القتات عن مجاهدٍ عن ابن عباسٍ مرفوعًا وفيه نظرٌ ولا يحتج بهذا. لكن من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظرًا وقولًا وعملًا وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى لا يكون في ذلك كلامٌ محرمٌ -إما شكوى إلى مخلوق وإما إظهار فاحشةٍ وإما نوع طلبٍ للمعشوق- وصبرٍ على طاعة الله وعن معصيته وعلى ما في قلبه من ألم العشق كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة؛ فإن هذا يكون ممن اتقى الله وصبر }إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ{ [سورة يوسف آية: 90] وهكذا مرض الحسد وغيره من أمراض النفوس وإذا كانت النفس تطلب ما يبغضه الله فينهاها خشيةً من الله كان ممن دخل في قوله تعالى: }وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى{ [سورة النازعات آية: 40، 41] فالنفس إذا أحبت شيئًا سعت في حصوله بما يمكن حتى تسعى في أمورٍ كثيرةٍ تكون كلها مقاماتٍ لتلك الغاية فمن أحب محبةً مذمومةً أو أبغض بغضًا مذمومًا وفعل ذلك كان آثمًا مثل أن يبغض شخصًا لحسده له فيؤذي من له به تعلقٌ إما بمنع حقوقهم؛ أو بعدوان عليهم. أو لمحبة له لهواه معه فيفعل لأجله ما هو محرمٌ أو ما هو مأمورٌ به لله فيفعله لأجل هواه لا لله وهذه أمراضٌ كثيرةٌ في النفوس والإنسان قد يبغض شيئًا فيبغض لأجله أمورًا كثيرةً بمجرد الوهم والخيال. وكذلك يحب شيئًا فيحب لأجله أمورًا كثيرةً؛ لأجل الوهم والخيال كما قال شاعرهم: أحب لحبها السودان حتى أحب لحبها سود الكلاب فقد أحب سوداء؛ فأحب جنس السواد حتى في الكلاب وهذا كله مرضٌ في القلب في تصوره وإرادته. فنسأل الله تعالى أن يعافي قلوبنا من كل داءٍ؛ ونعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء. والقلب إنما خلق لأجل «حب الله تعالى» وهذه الفطرة التي فطر الله عليها عباده كما قال النبي r «كلّ مولودٍ يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه؛ كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء هل تحسّون فيها من جدعاء. ثمّ يقول أبو هريرة رضي اللّه عنه اقرءوا إن شئتم: }فطرة اللّه الّتي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق اللّه{ [الروم: 30]». أخرجه البخاري ومسلمٌ. فالله سبحانه فطر عباده على محبته وعبادته وحده؛ فإذا تركت الفطرة بلا فسادٍ كان القلب عارفًا بالله محبًّا له عابدًا له وحده لكن تفسد فطرته من مرضه -كأبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه- وهذه كلها تغير فطرته التي فطره عليها وإن كانت بقضاء الله وقدره كما يغير البدن بالجدع ثم قد يعود إلى الفطرة إذا يسر الله تعالى لها من يسعى في إعادتها إلى الفطرة. والرسل صلى الله عليهم وسلم بعثوا لتقرير الفطرة وتكميلها لا لتغيير الفطرة وتحويلها وإذا كان القلب محبًّا لله وحده مخلصًا له الدين لم يبتل بحب غيره، فضلًا أن يبتلى بالعشق. وحيث ابتلي بالعشق فلنقص محبته لله وحده. ولهذا لما كان يوسف محبًّا لله مخلصًا له الدين لم يبتل بذلك بل قال تعالى: }كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ{ [سورة يوسف آية: 24]. وأما امرأة العزيز فكانت مشركةً هي وقومها فلذلك ابتليت بالعشق وما يبتلى بالعشق أحدٌ إلا لنقص توحيده وإيمانه وإلا فالقلب المنيب إلى الله الخائف منه فيه صارفان يصرفان عن العشق: أحدهما إنابته إلى الله ومحبته له فإن ذلك ألذ وأطيب من كل شيءٍ فلا تبقى مع محبة الله محبة مخلوقٍ تزاحمه. والثاني خوفه من الله فإن الخوف المضاد للعشق يصرفه وكل من أحب شيئًا بعشق أو غير عشقٍ فإنه يصرف عن محبته بمحبة ما هو أحب إليه منه إذا كان يزاحمه وينصرف عن محبته بخوف حصول ضررٍ يكون أبغض إليه من ترك ذاك الحب فإذا كان الله أحب إلى العبد من كل شيءٍ وأخوف عنده من كل شيءٍ لم يحصل معه عشقٌ ولا مزاحمةٌ إلا عند غفلةٍ أو عند ضعف هذا الحب والخوف بترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات فإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فكلما فعل العبد الطاعة محبةً لله وخوفًا منه وترك المعصية حبًّا له وخوفًا منه قوي حبه له وخوفه منه فيزيل ما في القلب من محبة غيره ومخافة غيره.
     وهكذا أمراض الأبدان: فإن الصحة تحفظ بالمثل والمرض يدفع بالضد فصحة القلب بالإيمان تحفظ بالمثل وهو ما يورث القلب إيمانًا من العلم النافع والعمل الصالح فتلك أغذيةٌ له كما في حديث ابن مسعودٍ مرفوعًا وموقوفًا «إنّ كلّ آدبٍ يحبّ أن تؤتى مأدبته وإنّ مأدبة اللّه هي القرآن» والآدب المضيف فهو ضيافة الله لعباده([1]).
     آخر الليل وأوقات الأذان والإقامة وفي سجوده وفي أدبار الصلوات ويضم إلى ذلك الاستغفار؛ فإنه من استغفر الله ثم تاب إليه متعه متاعًا حسنًا إلى أجلٍ مسمًّى. وليتخذ وردًا من «الأذكار» في النهار ووقت النوم وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف فإنه لا يلبث أن يؤيده الله بروح منه ويكتب الإيمان في قلبه. وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس باطنةً وظاهرةً فإنها عمود الدين وليكن هجيراه لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها بها تحمل الأثقال وتكابد الأهوال وينال رفيع الأحوال. ولا يسأم من الدعاء والطلب فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل فيقول: قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي وليعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا ولم ينل أحدٌ شيئًا من ختم الخير -نبيٌّ فمن دونه- إلا بالصبر.
     والحمد لله رب العالمين وله الحمد والمنة على الإسلام والسنة حمدًا يكافئ نعمه الظاهرة والباطنة كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.


     ([1]) بياض في الأصل والظاهر أن الساقط هو: «فمن ابتلي بشيء من هذه الأمراض فليستعن على ذلك بالدعاء وليتحر أوقات الإجابة مثل...».
    Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

    SOLIDARITI MENERUSKAN PERJUANGAN

    INI ZAMANNYA