بن قيم الجوزية
القيامة قيامتان- صغرى وكبرى
وهذا غير شهادة جوارحه وغير شهادة الأرض التي كان عليها له وعليه وغير شهادة رسله والمؤمنين، فإن الله سبحانه يستشهد على العباد الحفظة والأنبياء والأمكنة التي عملوا عليها الخير والشر، والجلود التي عصوه بها، ولا يحكم بينهم بمجرد عمله وهو أعدل
ثم أخبر سبحانه أن الإنسان في غفلة من هذا الشأن الذي هو حقيق بألا يغفل عنه وألا يزال على ذكره وباله، وقال: « في غفلة من هذا» الآية 22 من سورة ق ولم يقل عنه كما قال: « وإنهم لفي شك منه مريب» الآية: 110 من سورة هود ولم يقل في شك فيه، وجاء هذا في المصدر وإن لم يجئ في الفعل، فلا يقال: غفلت منه ولا شككت منه، كأن غفلته وشكه ابتداء منه فهو مبدأ غفلته وشكه. وهذا أبلغ من أن يقال في غفلة عنه، وشك فيه، فإنه جعل ما ينبغي أن يكون مبدأ التذكرة واليقين ومنشؤهما مبدأ للغفلة والشك.
ثم أخبر أن غطاء الغفلة والذهول يكشف عنه ذلك اليوم كما يكشف غطاء النوم عن القلب فيستيقظ، وعن العين فتنفتح، فنسبة كشف هذا الغطاء عن العبد عند المعاينة كنسبة كشف غطاء النوم عنه عند الانتباه.
ثم أخبر سبحانه أن قرينه وهو الذي قرن به في الدنيا من الملائكة يكتب عمله وقوله، يقول لما يحضره: هذا الذي كنت وكلتني به في الدنيا قد أحضرته وأتيتك به. هذا قول مجاهد .
وقال ابن قتيبة: المعنى: هذا ما كتبته عليه وأحصيته من قوله وعمله حاضر عندي.
والتحقيق أن الآية تتضمن الأمرين. أي هذا الشخص الذي وكلت به هذا عمله الذي أحصيته عليه؛ فحينئذ يقال: « ألقيا في جهنم...» الآية: 24 من سورة ق وهذا إما أن يكون خطاباً للسائق والشهيد، أو خطاباً للملك الموكل بعذابه وإن كان واحداً. وهو مذهب معروف من مذاهب العرب في خطابها، أو تكون الألف منقلبة عن نون التأكيد الخفية ثم أجرى الوصل مجرى الوقف.
ثم ذكر صفات هذا الملقى فذكر له ست صفات:
«أحدهما:» أنه كفار لنعم الله وحقوقه، كفار بدينه وتوحيده وأسمائه وصفاته.
«الثانية:» أنه معاند للحق يدفعه جحداً وعناداً.
«الثالثة:» أنه مناع للخير، وهذا يعلم منعه للخير الذي هو إحسان إلى نفسه من الطاعات والقرب إلى الله، والخير الذي هو إحسان إلى الناس، فليس فيه خير لنفسه ولا لبني جنسه، كما هو حال أكثر الخلق .
«الرابعة:» أنه مع منعه للخير معتد على الناس، ظلوم غشوم، معتد عليهم بيده ولسانه.
«الخامسة:» أنه مريب، أي صاحب ريبة.
«السادسة:» أنه مع ذلك مشرك بالله قد اتخذ مع الله إلهاً آخر يعبده ويحبه ويغضب له، ويرضى له ويحلف باسمه وينذر له، ويوالي فيه ويعادي فيه. فيختصم هو وقرينه من الشياطين ويحيل الأمر عليه، وأنه هو الذي أطغاه وأضله، فيقول قرينه: لم يكن لي قوة أن أضله وأطغيه، ولكن كان في ضلال بعيد اختاره لنفسه، وآثره على الحق، كما قال إبليس لأهل النار: «وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي» الآية: 22 من سورة إبراهيم، وعلى هذا فالقرين هنا هو شيطانه يختصمان عند الله. وقالت طائفة: بل قرينه هاهنا هو الملك فيدعي عليه أنه زاد عليه فيما كتبه عليه وطغى، وأنه لم يفعل ذلك كله، وأنه أعجله بالكتابة عن التوبة ولم يمهله حتى يتوب، فيقول الملك: ما زدت في الكتابة عن التوبة «ولكن كان في ضلال بعيد» الآية: 27 من سورة ق، فيقول الرب تعالى: «لا تختصموا لدي» الآية: 28 من سورة ق، وقد أخبر سبحانه عن اختصام الكفار والشياطين بين يديه في سورة الصافات والأعراف، وأخبر عن اختصام الناس بين يديه في سورة الزمر، وأخبر عن اختصام أهل النار فيها في سورة الشعراء وسورة ص .
ثم أخبر سبحانه أنه لا يبدَّل القول لديه، فقيل: المراد بذلك قوله: «لأملأن جهنم من الجِنَّة والناس أجمعين» الآية: 119 من سورة هود، ووعده لأهل الإيمان بالجنة، وأن هذا لا يبدل ولا يخلف.
قال ابن عباس: يريد: ما لوعدي خلف لأهل طاعتي ولا لأهل معصيتي.
قال مجاهد: قد قضيت ما أنا قاض، وهذا أصح القولين في الآية.
وفيها قول آخر: أن المعنى: ما يغير القول عندي بالكذب والتلبيس كما يغير عند الملوك والحكماء، فيكون المراد بالقول: قول المختصمين، وهو اختيار الفراء ، وابن قتيبة
قال الفراء: المعنى: ما يكذب عندي لعلمي بالغيب، وقال ابن قتيبة: أي ما يحرف القول عندي ولا يزاد فيه ولا ينقص منه، قال: لأنه قال: القول عندي، ولم يقل: قولي. وهذا كما يقال: لا يكذب عندي، فعلى القول الأول يكون قوله: «وما أنا بظلام للعبيد» الآية: 29 من سورة ق، من تمام قوله: «ما يبدل القول لدي» الآية: 29 من سورة ق، في المعنى؛ أي: ما قلته ووعدت به لا بد من فعله، ومع هذا فهو عدل لا ظلم فيه ولا جور، وعلى الثاني يكون قد وصف نفسه بأمرين:
«أحدهما:» أن كمال علمه واطلاعه يمنع من تبديل القول بين يديه وترويج الباطل عليه، وكمال عدله وغناه يمنع من ظلمه لعبيده.
ثم أخبر عن سعة جهنم وأنها كلما ألقى فيها تقول: «هل من مزيد» الآية: 30 من سورة ق، وأخطأ من قال: إن ذلك للنفي؛ أي ليس من مزيد. والحديث الصحيح يرد هذا التأويل.