بن قيم الجوزية
كيف يفعل من أصابه هم أو غم
فتضمن الحديث العظيم أموراً من المعرفة والتوحيد والعبودية: منها أن الداعي به صدَّر سؤاله بقوله: إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك. وهذا يتناول مَن فوقه من آبائه وأمهاته إلى أبويه : آدم وحواء، وفي ذلك تملق له و استخزاء بين يديه، واعتراف بأنه مملوكه وآباؤه مماليكه. وأن العبد ليس له غير باب سيده وفضله وإحسانه، وأن سيده إن أهمله وتخلى عنه هلك ولم يُؤوه أحد ولم يعطف عليه بل
وفي ضمن ذلك الاعتراف بأنه مربوب مدبر مأمور منهي، إنما يتصرف بحكم العبودية لا بحكم الاختيار لنفسه، فليس هذا شأن العبد، بل شأن الملوك والأحرار، وأما العبيد فتصرفهم على محض العبودية، فهؤلاء عبيد الطاعة المضافون إليه سبحانه في قوله: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان» الآية: 42 من سورة الحجر، وقوله: «وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً» الآية: 63 من سورة الفرقان، ومن عداهم عبيد القهر والربوبية، فإضافتهم إليه كإضافة سائر البيوت إلى ملكه، وإضافة أولئك كإضافة البيت الحرام إليه. وإضافة ناقته إليه وداره التي هي الجنة إليه، وإضافة عبودية رسوله إليه بقوله: «وأنه لما قام عبد الله يدعوه» الآية: 19 من سورة الجن.
من معاني العبودية
وفيه أيضاً أني عبد من جميع الوجوه صغيراً وكبيراً، حيًّا وميتاً، مطيعاً وعاصياً، معافى ومبتلى القلب واللسان والجوارح.
وفيه أيضاً أن مالي ونفسي ملك لك، فإن العبد وما يملك لسيده.
وفيه أيضاً أنك أنت الذي مننت عليَّ بكل ما أنا فيه من نعمة، فذلك كله من إنعامك على عبدك.
وفيه أيضاً أني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إلا بأمرك كما لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده، وأني لا أملك لنفسي ضرًّا ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فإن صح له شهود ذلك فقد قال إني عبدك حقيقة.
ثم قال: ْ « ناصيتي بيدك» ، أي أنت المتصرف فيَّ، تصرفني كيف تشاء، لست أنا المتصرف في نفسي، وكيف يكون له في نفسه تصرف من نفسه بيد ربه وسيده وناصيته بيده وقلبه بين أصبعين من أصابعه، وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كله إليه سبحانه ليس إلى العبد منه شيء، بل هو في قبضة سيده أضعف من مملوك ضعيف حقير ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له تحت تصرفه وقهره بل الأمر فوق ذلك.
ومتى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء لم يخفهم بعد ذلك ولم يرجهم ولم ينزلهم منزلة المالكين، بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرف فيهم سواهم، والمدبر لهم غيرهم، فمن شهد نفسه بهذا المشهد صار فقره وضرورته إلى ربه وصفاً لازماً له، متى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم ولم يعلق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته، ولهذا قال هود لقومه: «إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم» الآية: 56 من سورة هود.
وقوله: « ماض فيَّ حكمك عدل في قضاؤك» تضمن هذا الكلام أمرين:
«أحدهما:» مضاء حكمه في عبده.
«ثانيهما:» يتضمن حمده وعدله، وهو سبحانه له الملك وله الحمد. وهذا معنى قول نبيه هود: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها» الآية: 56 من سورة هود، ثم قال: «إن ربي على صراط مستقيم» الآية: 56 من سورة هود، أي مع كونه مالكاً قاهراً متصرفاً في عباده نواصيهم بيده، فهو على صراط مستقيم: في قوله وفعله، وقضاءه وقدره، وأمره ونهيه، وثوابه وعقابه، فخبره كله صدق، وقضاؤه كله عدل، وأمره كله مصلحة، والذي نهى عنه كله مفسده، وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته، وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله ورحمته.
القضاء والحكم والفرق بينهما
ولما كان القضاء هو الإتمام والإكمال، وذلك إنما يكون بعد مضيه ونفوذه، قال: «عدل فيَّ قضاؤك» أي الحكم الذي أكملته وأتممته ونفذته في عبدك عدل منك فيه، وأما الحكم فهو ما يحكم به سبحانه وقد يشاء تنفيذه وقد لا ينفذه، فإن كان حكماً دينيًّا فهو ماض في العبد، وإن كان كونيًّا: فإن نفذه سبحانه مضى فيه، وإن لم ينفذه اندفع عنه، فهو سبحانه يقضي ما يقضي به، وغيره قد يقضي بقضاء ويقدر أمراً ولا يستطيع تنفيذه، وهو سبحانه يقضي ويمضي، فله القضاء والإمضاء.
وقوله: « عدل فيَّ قضاؤك » يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه: من صحة وسقم، وغنى وفقر، ولذة وألم، وحياة وموت، وعقوبة وتجاوز وغير ذلك.
قال تعالى: «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم» الآية: 30 من سورة الشورى، وقال: «وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور» الآية: 48 من سورة الشورى، فكل ما يقضي على العبد فهو عدل فيه.
«فإن قيل» : فالمعصية عندكم بقضائه وقدره، فما وجه العدل في قضائها؟ فإن العدل في العقوبة عليها غير ظاهر.
قيل: هذا سؤال له شأن ومن أجله زعمت طائفة أن العدل هو المقدور والظلم ممتنع لذاته، قالوا: لأن الظلم هو المتصرف في ملك الغير والله له كل شيء، فلا يكون تصرفه في خلقه إلا عدلاً.
وقالت طائفة: بل العدل أنه لا يعاقب على ما قضاه وقدره، فلما حسن منه العقوبة على الذنب علم أنه ليس بقضائه وقدره فيكون العدل هو جزاؤه على الذنب بالعقوبة والذم إما في الدنيا وإما في الآخرة.
وصعب على هؤلاء الجمع بين العدل وبين القدر، فزعموا أن من أثبت القدر لم يمكنه أن يقول بالعدل. ومن قال بالعدل لم يمكنه أن يقول بالقدر، كما صعب عليهم الجمع بين التوحيد وإثبات الصفات، فزعموا أنه لا يمكنهم إثبات التوحيد إلا بإنكار الصفات، فصار توحيدهم تعطيلاً وعدلهم تكذيباً بالقدر.
وأما أهل السنة فهم مثبتون للأمرين، والظلم عندهم هو وضع الشيء في غير موضعه كتعذيب المطيع ومن لا ذنب له، وهذا قد نزه الله نفسه عنه في غير موضع من كتابه، وهو سبحانه وإن أضل من شاء وقضى بالمعصية وألغى على من شاء فذلك محض العدل فيه لأنه وضع الإضلال والخذلان في موضعه اللائق به، كيف ومن أسمائه الحسنى «العدل » الذي كل أفعاله وأحكامه سداد وصواب وحق، وهو سبحانه قد أوضح السبل، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأزاح العلل، ومكن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول، وهذا عدله. ووفق من شاء بمزيد عناية وأراد من نفسه أن يعينه ويوفقه فهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه من نفسه أن يوفقه، فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله، وهذا نوعان:
«أحدهما:» ما يكون جزاء منه للعبد على إعراضه عنه، وإيثار عدوه في الطاعة والموافقة عليه وتناسي ذكره وشكره فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه.
«ثانيهما:» ألا يشاء له ذلك ابتداء لما يعلم منه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية، ولا يشكره عليه، ولا يثني عليه بها ولا يحبها فلا يشاؤها له لعدم صلاحيته محله.
قال تعالى: «وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين» الآية: 53 من سورة الأنعام، وقال: «ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم» الآية: 23 من سورة الأنفال، فإذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية كان في محض العدل، كما إذا قضى على الحية بأن تقتل وعلى العقرب وعلى الكلب العقور كان ذلك عدلاً فيه، وإن كان مخلوقاً على هذه الصفة.
وقد استوفينا الكلام في هذا في كتابنا الكبير في القضاء والقدر.
والمقصود: أن قوله صلى الله عليه وسلم: « ماض في حكمك عدل في قضاؤك » رد على الطائفتين: القدرية الذين ينكرون عموم أقضية الله في عباده ويخرجون أفعال العباد عن كونها بقضائه وقدره، ويردون القضاء إلى الأمر والنهي، وعلى الجبرية الذين يقولون كل مقدور عدل فلا يبقى لقوله: «عدل في قضاؤك» فائدة، فإن العدل عندهم كل ما يمكن فعله والظلم هو المحال لذاته، فكأنه قال: ماض ونافذ فيَّ قضاؤك، وهذا هو.
وقوله: « أسألك بكل اسم ...» إلى آخره، توسل إليه بأسمائه كلها ما علم العبد منها وما لم يعلم، وهذه أحب الوسائل إليه، فإنها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هي مدلول أسمائه.
وقوله: «أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري» الربيع: المطر الذي يحيي الأرض. شبه القرآن به لحياة القلوب به، وكذلك شبهه الله بالمطر وجمع بين الماء الذي تحصل به الحياة والنور الذي تحصل به الإضاءة والإشراق، كما جمع بينهما سبحانه في قوله: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية...» الآية: 17 من سورة الرعد، في قوله: «مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم» الآية: 17 من سورة البقرة، ثم قال: «أو كصيب من السماء» الآية: 19 من سورة البقرة، وفي قوله: «الله نور السموات الأرض مثل نوره...» الآيات الآية: 35 من سورة النور، ثم قال: «ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه» الآيات الآية: 43 من سورة النور.
فتضمن الدعاء أن يحيي قلبه بربيع القرآن وأن ينور به صدره فتجتمع له الحياة والنور.
وقال تعالى: «أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها» الآية: 122 من سورة الأنعام.
ولما كان الصدر أوسع من القلب كان النور الحاصل له يسري منه إلى القلب؛ لأنه قد حصل لما هو أوسع منه، ولما كانت حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب تسري الحياة منه إلى الصدر ثم إلى الجوارح سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادتها، ولما كان الحزن والهم والغم يضاد حياة القلب واستنارته سأل أن يكون ذهابها بالقرآن فإنها أحرى ألا تعود. وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد فإنها تعود بذهاب ذلك. والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهم، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم،