بن قيم الجوزية
سورة ق جامعة لأصول الإيمان
وتأمل كيف دلت السورة صريحاً على أن الله سبحانه يعيد هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى، فينعمه ويعذبه كما ينعم الروح التي آمنت بعينها ويعذب التي كفرت بعينها، لا أنه سبحانه يخلق روحاً أخرى غير هذه فينعمها ويعذبها، كما قاله من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل، حيث زعم أن الله سبحانه يخلق بدنا غير هذا البدن من كل وجه عليه يقع النعيم والعذاب، والروح عنده عرض من أعراض البدن فيخلق روحاً غير هذه الروح وبدنا غير هذا البدن.
وهذا غير ما اتفقت عليه الرسل، وذلك الذي عليه القرآن والسنة وسائر كتب الله تعالى، وهذا في الحقيقة إنكار للمعاد، وموافقة لقول من أنكره من المكذبين، فإنهم لم ينكروا قدرة الله على خلق أجسام غير هذه الأجسام يعذبها وينعمها.
كيف وهم يشهدون النوع الإنساني يخلق شيئاً بعد شيء، فكل وقت يخلق سبحانه أجساماً وأرواحاً غير الأجسام التي فنيت، فكيف يتعجبون من شيء يشاهدونه عياناً، وإنما تعجبوا من عودهم بأعيانهم بعد أن مزقهم البلى وصاروا عظاماً و رفاتاً، فتعجبوا أن يكونوا هم بأعيانهم مبعوثين للجزاء، ولهذا قالوا: «أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون» الآية: 16 من سورة الصافات. وقالوا: «ذلك رجع بعيد» . الآية: 3 من سورة ق. ولو كان الجزاء إنما هو لأجسام غير هذه لم يكن ذلك بعثا ولا رجعا بل يكون ابتداء ، ولم يكن لقوله «قد علمنا ما تنقص الأرض منهم» كبير معنى، فإنه سبحانه جعل هذا جوابا لسؤال مقدر، وهو أنه يميز تلك الأجزاء التي اختلطت بالأرض واستحالت إلى العناصر بحيث لا تتميز، فأخبر سبحانه أنه قد علم ما تنقصه الأرض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم، وأنه كما هو عالم بتلك الأجزاء فهو قادر على تحصيلها وجمعها بعد تفرقها، وتأليفها خلقاً جديداً. وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه وكمال قدرته وكمال حكمته، فإن شُبه المنكرين له كلها تعود إلى ثلاثة أنواع:
«أحدها:» اختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض على وجه لا يتميز ولا يحصل معها تميز شخص عن شخص.
«الثاني:» أن القدرة لا تتعلق بذلك.
«الثالث:» أن ذلك أمر لا فائدة فيه، وإنما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الإنساني شيئا بعد شيء، هكذا أبدا كلما مات جيل آخر، فأما أن يميت النوع الإنساني كله ثم يحييه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك.