بن قيم الجوزية
«أحدها:» تقرير كمال علم الرب سبحانه، كما قال في جواب من قال: «من يحيي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم» الآيتان: 78، 79 من سورة يس. وقال: « وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل. إن ربك هو الخلاق العليم» الآيتان:85،86 من سورة الحجر. وقال: « قد علمنا ما تنقص الأرض منهم» .الآية: 4 من سورة ق.
«الثاني:» تقرير كمال قدرته، كقوله تعالى: « أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم» الآية: 18 من سورة يس. وقوله تعالى: « بلى قادرين على أن نسوي بنانه» الآية: 4 من سورة القيامة. وقوله :
ويجمع سبحانه بين الأمرين كما في قوله تعالى: « أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم. بلى وهو الخلاق العليم» الآية: 81 من سورة يس.
«الثالث:» كمال حكمته، كقوله تعالى «ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين» الآية: 38 من سورة الدخان. وقوله: «وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً» وقوله: « أيحسب الإنسان أن يترك سدى» الآية: 36 من سورة القيامة وقوله: «أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون . فتعالى الله الملك الحق» الآية: 115،116 من سورة المؤمنون. وقوله: « أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم» .
ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع، وأن كمال الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه، وأنه منزه عما يقوله منكروه كما ينزه كماله عن سائر العيوب والنقائص.
ثم أخبر أن المنكرين لذلك لما كذبوا بالحق اختلط عليهم أمرهم: «فهم في أمر مريج» الآية: 5 من سورة ق: مختلط لا يحصلون منه على شيء. ثم دعاهم إلى النظر في العالم العلوي وبنائه، وارتفاعه واستوائه، وحسنه والتئامه. ثم إلى العالم السفلي ؛وهو الأرض، وكيف بسطها وهيأها بالبسط لما يراد منها، وثبتها بالجبال، وأودع فيها المنافع، وأنبت فيها من كل صنف حسن من أصناف النبات على اختلاف أشكاله وألوانه ومقاديره ومنافعه، وأن ذلك تبصرة إذا تأملها العبد المنيب وتبصر بها، تذكر ما دلت عليه مما أخبرت به الرسل من التوحيد والمعاد، فالناظر فيها يتبصر أولا، ثم يتذكر ثانيا، وإن هذا لا يحصل إلا لعبد منيب الله بقلبه وجوارحه.
ثم دعاهم إلى التفكر في مادة أرزاقهم وأقوالهم، وملابسهم ومراكبهم وجناتهم، وهو الماء الذي أنزله من السماء وبارك فيه، حتى أثبت به جنات مختلفة الثمار والفواكه، ما بين أبيض وأسود، وأحمر وأصفر، وحلو وحامض، وبين الثمار اختلاف منابعها وتنوع أجناسها، وأنبت به الحبوب كلها على تنوعها واختلاف منافعها وصفاتها، وأشكالها ومقاديرها. ثم أفرد النخل لما فيه من موضع العبرة والدلالة التي لا تخفى على المتأمل: «فأحيا به الأرض بعد موتها» الآية: 164 من سورة البقرة. ثم قال: «كذلك الخروج» الآية: 11من سورة ق. أي مثل هذا الإخراج من الأرض الفواكه والثمار والأقوات والحبوب: خروجكم من الأرض بعدما غيبتم فيها، وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا المعالم وبينا بعض ما فيها من الأسرار والعبر.
ثم انتقل سبحانه وتعالى إلى تقرير النبوة بأحسن تقرير وأوجز لفظ وأبعده عن كل شبهة وشك، فأخبر أنه أرسل إلى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون _ رسلا؛ فكذبوهم، فأهلكهم بأنواع الهلاك، وصدق فيهم وعيده الذي أوعدتهم به رسله إن لم يؤمنوا، وهذا تقرير لنبوة من أخبر بذلك عنهم من غير أن يتعلم ذلك من معلم ولا قرأه في كتاب، بل أخبر به إخبارا مفصلا مطابقا لما عند أهل الكتاب.
ولا يرد على هذا سؤال البهت ، قال تعالى: «وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما» . والمكابرة على جحد الضروريات بأنه لم يكن شيء من ذلك، أو أن حوادث الدهر ونكباته أصابتهم كما أصابت غيرهم. وصاحب هذا السؤال يعلم من نفسه أنه باهت مباهت «أي كاذب» ، جاحد لما شهد به العيان وتناقله القرون قرنا بعد قرن، فإنكاره بمنزلة إنكار وجود المشهورين من الملوك والعلماء والبلاد النائية.
ثم عاد سبحانه إلى تقرير المعاد بقوله: «أفعيينا بالخلق الأول» . الآية: 15 من سورة ق. يقال لكل من عجز عن شيء: عيي به، وعيي فلان بهذا الأمر. قال الشاعر:
ومنه قوله تعالى: «ولم يعي بخلقهن» . الآية: 33من سورة الأحقاف. قال ابن عباس « هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، حبر الأمة، الصحابي الجليل، ولد بمكة سنة 03ق- 619 ونشأ في بدء عصر النبوة، روى عن النبي ، شهد مع علي الجمل وصفين، له في الصحيحين وغيرهما ما يزيد عن الألف حديث.» يريد: أفعجزنا، وكذلك قال مقاتل.
قلت: هذا تفسير يلازم اللفظة، وحقيقتها أعم من ذلك، فإن العرب تقول: أعياني أن أعرف كذا، وعييت به: إذا لم تهتد لوجهه ، ولم تقدر على معرفته وتحصيله فتقول: «أعياني دواؤك» إذا لم تهتد له ولم تقف عليه. ولازم هذا المعنى العجز عنه. والبيت الذي استشهدوا به شاهد لهذا المعنى، فإن الحمامة لم تعجز عن بيضتها، ولكن أعياها إذا أرادت أن تبيض: أين ترمي بالبيضة؟ فهي تدور وتجول حتى ترمي بها، فإذا باضت أعياها أن تحفظها وتودعها حتى لا تُنال، فهي تنقلها من مكان إلى مكان، وتحار أين تجعل مقرها؟ كما هو حال من عيي بأمره فلم يدر من أين يقصد له ومن أين يأتيه؟ وليس المراد بالإعياء في هذه الآية التعب كما يظنه من لم يعرف تفسير القرآن، بل هذا المعنى هو الذي نفاه سبحانه عن نفسه في آخر السورة بقوله: « وما مسنا من لغوب» الآية: 38 من سورة ق.
ثم أخبر سبحانه أنهم « في لبس من خلق جديد» الآية: 15 من سورة ق أي أنهم التبس عليهم إعادة الخلق جديداً، ثم نبههم على ما هو من أعظم آيات قدرته وشواهد ربوبيته وأدلة المعاد، وهو خلق الإنسان؛ فإنه من أعظم الأدلة على التوحيد والمعاد.
وأي دليل أوضح من تركيب هذه الصورة الآدمية بأعضائها وقواها وصفاتها، وما فيها من اللحم والعظم، والعروق والأعصاب، و الرباطات والمنافذ، والآلات والعلوم، والإرادات والصناعات، كل ذلك من نطفة ماء، فلو أنصف العبد لاكتفى بفكرة نفسه، واستدل بوجوده على جميع ما أخبرت به الرسل عن الله وأسمائه وصفاته.
ثم أخبر سبحانه عن إحاطة عمله به حتى علم وساوس نفسه، ثم أخبر عن قربه إليه بالعلم والإحاطة، وأن ذلك أدنى إليه من العرق الذي هو داخل بدنه، فهو أقرب إليه بالقدرة عليه والعلم به من ذلك العرق.
وقال شيخنا: المراد بقوله: «نحن» أي ملائكتنا، كما قال: « فإذا قرأناه فاتبع قرآنه» الآية 18 من سورة القيامة. أي إذا قرأه عليك رسولنا جبريل، قال: ويدل عليه قوله: « إذ يتلقى المتلقيان» الآية: 17 من سورة ق. فقيد القرب المذكور بتلقي الملكين فلا حجة في الآية لحلولي ولا معطل.
ثم أخبر سبحانه أنه على يمينه وشماله ملكان يكتبان أعماله وأقواله، ونبه بإحصاء الأقوال وكتابتها على كتابة الأعمال التي هي أقل وقوعاً وأعظم أثراً من الأقوال، وهي غايات الأقوال ونهايتها.