عتقد المسلم أن الله تعالى وحده هو المتفرد بالخَلْق والهداية، فإن الذي تفرَّد بخلق هذا الكون هو وحده الذي تفرَّد بحق هداية عباده والتشريع لهم وتوجيه الخطاب المُلزم إليهم، فلا حلال إلا ما أحلَّه الله تعالى، ولا حرام إلا ما حرَّمه الله تعالى. وإن مقتضى رضا العبد بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً أن يلتزم أحكام الشريعة وينقاد لها ويتمسك بها وينشرح صدره لها، قال تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} [الأعراف:3]، وقال أيضًا: {إنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء:105]، وقال سبحانه: {فلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [ النساء: 65]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} [ الأحزاب:36]، وقال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7]، وقال عزّ من قائل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
وتأسيسًا على ما سبق من الآيات القرآنية الآمرة باتباع ما أنزل الله تعالى، وتحكيم رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع شؤون الحياة، والناهية عن كل مخالفة لله ورسوله - فإن من يختار من الأحكام غير ما اختاره الله ورسوله، يكون قد ضلَّ ضلالاً بعيداً.
وقد سادت الأمة الإسلامية وعزَّت وارتفع شأنُها بالتزامها بأحكام الشريعة، وجَعْلها المعيار الذي توزن به الأقوال وتُقاس به الأعمال.
وإذا كان الإسلام الحقيقي يعني الطاعة والانقياد والامتثال لكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل مع الإذعان والرضا، ولا يكون ذلك إلا بفعل مراده على الوجه المشروع، كان التفقه في دين الله تعالى من أهم المهمات، والاشتغال به أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات؛ قال صلى الله عليه وسلم: "فضل العلم أحب إليّ من فضل العبادة" [رواه الحاكم]، وذلك لأن نوافل العبادات نفعها قاصر على صاحبها، بينما الاشتغال بعلم الفقه نفعه يعمُّ صاحبَه والمسلمين، كما أن العُبَّاد تبعٌ للعلماء؛ لأن "العلماء ورثة الأنبياء" [رواه الترمذي وأبو داود]، كما أن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه بينما العبادة تنقطع بموت صاحبها؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له" [رواه الترمذي والنسائي].
ومما ينبغي أن يُعلم أن حكم تعلم الفقه ومعرفة أحكام الحلال والحرام يختلف باختلاف الأحوال؛ فقد يكون أحيانًا فرض عينٍ، وأحيانًا فرض كفاية، وأحيانًا نافلة ومستحبًا.
1- فيكون تعلُّمُ الفقه فرضَ عينٍ فيما أوجبه الله تعالى على كل مسلم مُكَلَّف؛ وذلك لأن العلمَ طريقُ العمل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والمسلمُ لن يستطيع أداء ما أوجبه الله تعالى عليه إلا إذا عَلِمَه وعَلِمَ صفة أدائه الموافقة لمراد الله تعالى. وذلك مثل: أحكام الطهارة والصلاة والصوم وغيرها مما يجب على كل مسلم بعينه، ويدخل في ذلك تعلُّم ما يتعلق ببعض الناس دون بعض في العبادات والمعاملات؛ كأحكام الزكاة للأغنياء، والحج لمن استطاع، وأحكام البيع لمن يشتغل به، وأحكام الزواج لمن أراد التزوج، وأحكام الطلاق لمن أراد أن يطلِّق، وأحكام العِدَّة لمن فارقها زوجُها، ويدخل فيما تعلمه فرض عين: العلم بما يَحِلُّ وما يَحْرُمُ من المأكولات والمشروبات والملبوسات، فتعلَّمُ أحكام كل ذلك فرض عين ليتمَّ العملُ بموجبه.
2- ويكون تعلُّم الفقه فرض كفاية فيما زاد على ما سبق من العلم، بحيث يجب أن يوجد في الأُمَّة من يتخصص في علم الفقه، لتعلُّمه وتعليمه، وتحصيل ما لا بد منه لإقامة الدين؛ وذلك عملاً بقول الله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة:122].
3- ويكون تعلُّم الفقه نافلة ومستحبًا على مَن أراد التبحُّر في دقائق علم الفقه فيما فوق القدْر الذي يحصل به فرض الكفاية.