(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: معنى قول النبي صلى اللَّه عليه وسلم "المكثرون هم الأقلون" يعني إذا كان الغنىّ من أهل الجنة فهو أقل درجة من الفقير وإن كان من أهل النار فهو في الدرك الأسفل من النار إلا من قال بالمال هكذا وهكذا: يعني يتصدق عن يمينه ويساره ومن خلفه ومن بين يديه "وقليل ما هم" يعني قلما يوجد مثل هذا في الأغنياء لأن الشيطان يزين لهم أموالهم في الدنيا، وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "إن الشيطان يقول لن ينجو الغني من إحدى ثلاث: إما أن أزينه في عينه فيمنعه من حقه، وإما أن أسهل عليه سبيله فينفقه في غير حقه، وإما أن أحببه في قلبه فيكسبه بغير حقه"، وروى عن أبي الدرداء رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: "بعث النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأنا تاجر فأردت أن تجتمع لي التجارة مع العبادة فلم تجتمعا، فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة، فو الذي نفسي بيده ما أحب أن لي حانوتاً على باب المسجد لا تخطئني فيه صلاة فأربح كل يوم أربعين ديناراً فأتصدق بها في سبيل الله، قيل يا أبا الدرداء: لم تكره ذلك؟ قال لسوء الحساب". وروى عن أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "اللهم من أحبني فارزقه العفاف والكفاف، ومن أبغضني فأكثر ماله وولده" وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "الفقر مشقة في الدنيا مسرة في الآخرة والغنى مسرة في الدنيا مشقة في الآخرة" وروى أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "إن لكل أحد حرفة وحرفتي اثنتان الفقر والجهاد فمن أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني".
يعني أمره كان ضائعاً باطلاً فقد أمر اللَّه تعالى نبيه صلى اللَّه عليه وسلم. مجالسة الفقراء والقرب منهم وهذا الأمر لجميع الفقراء المسلمين إلى يوم القيامة، فينبغي للمسلم أن يحب الفقراء ويبرهم ويتخذ عندهم الأيادي فإنهم قوّاد اللَّه يوم القيامة وترجى شفاعتهم. وروى الحسن رحمه اللَّه تعالى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال (يؤتى بالعبد يوم القيامة فيعتذر اللَّه تعالى إليه كما يعتذر الرجل إلى الرجل في الدنيا، فيقول جل سلطانه وعظم شأنه وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنك لهوانك عليّ ولكن لما أعددت لك من الكرامة والفضيلة أخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف وانظر من أطعمك فيّ أو كساك فيّ يريد بذلك وجهي فخذ بيده فهو لك، والناس يومئذ قد ألجمهم العرق، فيتخلل الصفوف وينظر من فعل ذلك به فيأخذ بيده فيدخله الجنة، وروى الحسن رحمه اللَّه تعالى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "أكثروا معرفة الفقراء واتخذوا عندهم الأيادي فإن لهم دولة: قالوا يا رسول اللَّه وما دولتهم؟ قال إذا كان يوم القيامة قيل لهم انظروا من أطعمكم كسرة أو سقاكم شربة أو كساكم ثوباً فخذوا بيده ثم امضوا به إلى الجنة".
(قال الفقيه) رحمه اللَّه تعالى والدليل على فضل الفقراء قول اللَّه تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} يعني أقيموا الصلاة إليّ وأّدوا الزكاة إلى الفقراء فقرن حق الفقراء بحق نفسه، ويقال الفقير طبيب الغني وقصاره ورسوله وحارسه وشفيعه، وإنما قيل طبيبه لأن الغني إذا مرض يتصدق على الفقراء فيبرأ من مرضه، وإنما قيل قصاره لأن الغني إذا تصدق عليه يدعو له الفقير فيطهر الغني من ذنوبه ويطهر ماله، وإنما قيل هو رسوله لأن الغني إذا تصدق عن والديه أو عن أحد من أقربائه فيصل ذلك إلى الموتى فصار الفقير رسوله إلى الموتى، وإنما قيل هو حارسه لأن الغني إذا تصدق فدعا له الفقير تحصن مال الغني بدعاء الفقير. وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "ألا أخبركم عن ملوك الجنة؟ فقالوا: نعم، قال: هم الضعفاء المظلومون الذين لا يزوّجون المتنعمات ولا تفتح لهم أبواب السدد يموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره ولو اقسم على اللَّه لأبره" وقال ابن عباس رضى اللَّه تعالى عنهما: ملعون من أكرم بالغنى وأهان بالفقر. وعن أبي الدرداء: ما أنصفنا إخواننا الأغنياء، لأنهم يأكلون ونحن نأكل ويشربون ونحن نشرب، ويلبسون ونحن نلبس ولهم فضول أموالهم ينظرون إليها ونحن ننظر إليها معهم، وهم يحاسبون ونحن براء منها، وعن شقيق الزاهد أنه قال: اختار الفقراء ثلاثة أشياء، والأغنياء ثلاثة أشياء: اختار الفقراء راحة النفس، وفراغ القلب، وخفة الحساب، واختار الأغنياء تعب النفس، وشغل القلب، وشدة الحساب. وروى عن حاتم الزاهد أنه قال: من ادّعى أربعا من أربع فهو مكذّب: من أدّعى حب مولاه من غير ورع عن محارمه. ومن ادعى حب الجنة من غير إنفاق ماله في طاعة اللَّه تعالى، ومن ادعى حب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من غير اتباع سنته، ومن ادعى حب الدرجات من غير صحبة الفقراء والمساكين. وقال بعض الحكماء: أربع من كن فيه فهو محروم من الخير كله: المتطاول على من تحته، والعاق لوالديه، ومن يحقر الغريب، ومن يعير المساكين لمسكنتهم. وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "ما أوحى اللَّه تعالى إلى أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحى إليّ أن {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} سبح بحمد ربك وكن من الساجدين. واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" قال: حدثنا الفقيه أبو جعفر بإسناده عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال "يا أيها الناس لا تحملكم العسرة والفاقة على أن تطلبوا الرزق من غير حله فإني سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: اللهم توفني فقيراً ولا تتوفني غنياً واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة، فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة" وروى عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه أنه أتى بغنائم من غنائم القادسية فجعل يتصفحها وينظر إليها ويبكي، فقال له عبد الرحمن بن عوف هذا يوم السرور والفرح وأنت تبكي يا أمير المؤمنين؟ قال أجل، ولكن ما أوتي هذا قوم إلا أوقع بينهم العداوة والبغضاء. وروى عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي المال" وروى عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "إن أحب الخلق إلى اللَّه الفقراء، لأنه كان أحب الخلق إلى اللَّه الأنبياء فابتلاهم بالفقر". قال حدثنا أبي رحمه اللَّه تعالى حدثنا أبو الحسن الفراء بإسناده عن الحسن البصري رضي اللَّه تعالى عنه قال "أوحى اللَّه تعالى إلى موسى بن عمران إنه يموت رجل من أحب عبادي إليّ وأحب أهل الأرض فأته وكفنه وغسله وقم على قبره، فطلبه في العمران فلم يجده ثم طلبه في الخراب فلم يقدر عليه، ثم رأى قوماً من الطيانين فقال هل رأيتم مريضاً ههنا بأمس أو ميتاً اليوم؟ فقال بعضهم رأيت مريضاً في الخربة فلعلك تريده؟ قال: نعم فذهب فإذا هو بمريض طريح وتحت رأسه لبنة فلما أن عالج نفسه سقط رأسه على اللبنة، قال فقام موسى فبكى فقال يا رب قلت إن هذا من أحب عبادك إليك فلا أرى عنده من كان يمرضه، فأوحى اللَّه تعالى إليه أن يا موسى إني إذا أحببت عبدي زويت عنه الدنيا كلها، وروى عباد بن كثير عن الحسن أنه قال: أخذ إبليس أول دينار ضرب فوضعه على عينيه وقال من أحبك فهو عبدي. وروى عبد المنعم عن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه أنه قال: وصل إبليس لعنه الله إلى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام على صورة شيخ فقال له سليمان أخبرني بما أنت صانع بأمة روح اللَّه تعالى: يعني عيسى عليه الصلاة والسلام، فقال لأدعونهم يتخذون إلهين من دون اللَّه تعالى، قال فما أنت صانع بأمة محمد صلى اللَّه عليه وسلم؟ قال لأدعونهم إلى الدينار والدرهم حتى يكون ذلك أشهى عندهم من لا إله إلا الله، قال سليمان: أعوذ بالله منك، فنظر فإذا هو قد ذهب.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: الواجب على الفقير أن يعرف منة اللَّه تعالى ويعلم أنه قد صرف عنه الدنيا لكرامته عليه وأكرمه بما أكرم به الأنبياء والأولياء عليهم الصلاة والسلام ويحمد اللَّه تعالى ولا يجزع في ذلك، ويصبر على ما يصيبه من ضيق العيش، ويعلم أن وعد اللَّه له في الآخرة خيراً له مما صرف عنه في الدنيا، ولو لم يكن للفقر فضيلة سوى أنه كان حرفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم واقتداء به لكان عظيماً.