عندما استقر الإسلام نسبيا في الحجاز، أرسل رسول الله (ص) رسائل إلى عدد من كبار رؤساء العالم في ذلك العصر. في بعض
هذه الرسائل اعتمد على الدعوة إلى التوحيد -المبدأ المشترك بين الأديان السماوية-. ولأهمية الموضوع ندرج بعضا من تلك الرسائل:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط(). ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾().
حمل (حاطب بن أبي بلتعة) رسالة النبي (ص) إلى المقوقس حاكم مصر، فوجده قد رحل إلى الإسكندرية، فركب إليه، وسلمه الرسالة، ثم قال لحاطب: ما منعه إن كان نبيا أن يدعو على من خالفه وأخرجه من بلده إلى غيرها أن يسلط عليهم؟
فقال له حاطب: ألست تشهد أن عيسى بن مريم رسول الله؟ فماله حيث أخذه قومه، فأرادوا أن يقتلوه، أن لا يكون دعا عليهم، أن يهلكهم الله تعالى، حتّى رفعه الله إليه ؟
قال: أحسنت أنت حكيم من عند حكيم.
قم قال له حاطب: إنه كان قبلك من يرغم أنه الربّ الأعلى –يعني فرعون– فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فانتقم به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك.
إن هذا النبي دعا الناس، فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصاري، ولعمري، ما بشارة موسى بعيسى عليهما السلام والصلاة إلا كبشارة عيسى بمحمد (ص)، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن، وإلا كد أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوما فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا النبي ولسنا ننهاك عن دين المسيح بل نأمرك به.
بقى حاطب بن أبي بلتعة أياما ينتظر جواب المقوقس على رسالة رسول الله (ص)، وبعدها استدعاه المقوقس إلى قصره واستزاده معرفة بالإسلام وقال له: إلى ما يدعو محمّد؟
قال حاطب: إلى أن نعبد الله وحده، ويأمر بالصلاة، خمس صلوات في اليوم والليلة، ويأمر بصيام رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهي عن أكل الميتة والدم... ثم شرح له بعض جوانب حياة النبي (ص).
فقال المقوقس: هذه صفته، وكنت أعلم أن نبيا قد بقى، وكنت أظن أن مخرجه بالشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج من أرض العرب.
ثم دعا كاتبه الذي يكتب له بالعربية فكتب إلى النبي (ص):
(بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك. أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه وقد علمت أن نبيا قد بقى وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك...)
ثم عّدد له الهداية التي بعثها إليه وختم رسالة بعبارة (والسلام عليك).
أرسل المقوقس نحو أحد عشر نوعا من الهدايا وبينها طبيب أرسله لمعالجة مرضى المسلمين. فقبل رسول الله (ص) الهدايا، لكنه أرجع الطبيب قائلا: (إنا قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع) بذلك إلى أن هذه القاعدة في تناول الطعام كافية لحفظ صحّة المسلمين (ولعلّه- إضافة إلى هذه القاعدة الصحية العظيمة-لم يكن يأمن جانب الطبيب الذي كان مسيحيا وربما كان الطبيب متعصبا أيضا، فلم يشأ أن يترك أرواح المسلمين بين يديه).
إن إكرام المقوقس سفير النبي (ص) والهدايا التي أرسلها إليه، وتقديم اسم محمد (ص) على اسمه، تدلّ كلّها على أنه قد قبل دعوة رسول الله (ص) في قرارة نفسه أو أنه – على الأقل- مال إلى الإسلام. ولكنه لكي لا يهتز مركزه امتنع عن إظهار ذلك
علنا.
رسالة إلى قيصر الروم
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيّين(). ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾().
كان حامل رسالة رسول الله (ص) إلى القيصر رجل اسمه (دحية الكلبي). وتهيأ السفير للانطلاق نحو أرضه الروم. ولكنه قبل أن يصل القسطنطينية، عاصمة القيصر، علم أن القيصر قد يمّم شطر بيت المقدس للزيارة. فاتصل بحاكم (بصرى) الحارث بن أبي شمر وكشف له عن مهمته. ويبدو أنّ رسول الله (ص) كان قد أجاز دفع الرسالة إلى حاكم (بصرى) ليوصلها هذا إلى القيصر.
بعد أن اطلع الحاكم على الأمر، استدعى عدي بن حاتم وكلفه أن يسافر مع دحية إلى بيت المقدس ليوصل الرسالة إلى القيصر، وأن لا يرفع رأسه أبدا حتّى يأذن له.
فقال دحية: لا أفعل هذا أبدا، ولا أسجد لغير الله. فأعجبوا بمنطقة المتين. وقال له أحد رجال البلاط: إذا لك أن تضع الرسالة تجاه منبر قيصر وتنصرف، إن أحد غير القيصر لا يسمها.
فشكره دحية على ذلك، وترك الرسالة في ذلك المكان، وانصرف.
فتح قيصر الرسالة، وجلب انتباهه افتتاحها باسم الله، وقال: أنا لم أر رسالة مثل هذه غير رسالة سليمان. ثم طلب مترجمة ليقرأ له الرسالة ويترجمها. احتمل قيصر أن يكون كاتب الرسالة هو النبي الموعود في التوراة والإنجيل. فعزم على معرفة دقائق حياة هذا النبي. فأمر بالبحث في الشام لعلهم يعثرون على من يعرف شيئا عن محمد (ص). واتفق أن كان أبو سفيان وجمع من قريش قد قدموا إلى الشام –التي كانت الجناح الشرقي للروم-للتجارة، فاتصل بهم الرجال القيصر وأخذوهم إلى بيت المقدس، فسألهم القيصر: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يرغم أنه نبي؟فقال أبو سفيان: أنا.
ثم قال القيصر للقريشيين –على طريق ترجمانه -: إني سائل (أبا سفيان) عن هذا الرجل الذي يرغم انه نبي. فإن فكذبوه. فقال أبو سفيان: وايم الله لو لا مخافة أن يؤثر عليّ الكذب لكذبت.
ثم قال: لترجمانه: سله
كيف حسبه فيكم؟
أبو سفيان: هو فينا ذو حسب.
القيصر: هل كان من آبائه ملك؟
أبو سفيان: لا.
القيصر: هل كنتم تّتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
أبو سفيان: لا.
القيصر: من يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟
أبو سفيان: بل ضعفاؤهم.
القيصر: أيزيدون أم ينقصون؟
أبو سفيان: بل يزيدون.
القيصر: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟
أبو سفيان: لا.
ثم استمر الحوار بين الاثنين عن موقف قريش من النبي (ص) وعن سجاياه ثمّ قال القيصر:
إن يكن ما تقول حقا فإنه نبيّ، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنّه منكم، ولو أعلم أنّي أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه- حسب تقاليد الاحترام يومئذ- وليبلغن ملكه ما تحت قدمّي، ثم دعا بكتاب رسول الله فقرأه ودعا دحية واحترامه وكتب جواب الرسالة وضمنّها بهدية وأرسلها إلى الرسول (ص) وأظهر في جواب الرسالة ولاءه ومحبته إلى رسول الله (ص).
ومن تاريخ الإسلام نطالع ما حصل لقيصر الروم عندما وصله رسول الله النبي (ص)، ويذكر بأن القيصر قد أظهر الإيمان سرا للرسول حتى أنه رغب في دعوة قومه لدين التوحيد إلا أنه خاف قومه وفكر بامتحانهم فــــ (أمر مناديا ينادي: ألا إن هرقل قد ترك النصرانية واتبع دين محمد (ص) فأقبل جنده بأسلحتهم حتى طافوا بقصره، فأمر مناديه فنادى: ألا إن قيصر إنما أراد أن يجربكم كيف صبركم على دينكم، فارجعوا فقد رضى عنكم. ثم قال للرسول: إني أخاف على ملكي. وإني لأعلم أنّ صاحبك نبيّ مرسل، والذي كنّا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكنّي أخاف الروم على نفسي، ولو لا ذلك لاتبعته).