(قال الفقيه) أبو الليث السمرقندي رحمه اللَّه تعالى: حدثنا محمد بن
الفضل حدثنا محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن يوسف وحدثنا ابن إدريس عن ليث بن أبي
سليم عن ميمون بن مهران عن أبي ذر الغفاري رضي اللَّه تعالى عنه قال: الصلاة عماد
الإسلام، والجهاد سنام العمل، والصدقة شيء عجيب، والصدقة شيء عجيب والصدقة شيء
عجيب. وسئل عن الصوم؟ فقال: قربة وليس هناك فضل، وقيل فأي صدقة أفضل؟ قال أكثرها
فأكثرها ثم قرأ {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قيل
فمن لم يكن عنده؟ قال فعفو مال: يعني يتصدق بفضل مال، قيل فمن لم يكن عنده مال؟ قال
فعفو طعام، قيل فإن لم يكن عنده؟ قال يعين بقوته، قيل فمن لم يفعل؟ قال يتقي النار
ولو بشق
تمرة، قيل فمن لم يفعل؟ قال يكف نفسه: يعني لا يظلم الناس. وذكر في رواية
أخرى أنه روى
هذا عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: حدثنا محمد بن الفضل
حدثنا محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثنا يزيد بن زريع عن هشام الدستوائي عن
قتادة عن خليل بن عبد اللَّه العصري عن أبي الدرداء رضي اللَّه تعالى عنه أن النبي
صلى اللَّه عليه وسلم قال "ما طلعت شمس إلا بعث بجنبتيها مكان يناديان، وإنهما
يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما
كثر وألهى، وملكان يناديان: اللهم عجل لمنفق ماله خلفاً وعجل لممسك ماله تلفا" قال:
أخبرنا أبي رحمه اللَّه تعالى حدثنا محمد بن موسى حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا إبراهيم
بن يسار عن زرعة بن أيوب عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما
قال: "مر النبي صلى اللَّه عليه وسلم برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول أسألك
بحرمة هذا البيت أن تغفر لي؟ فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يا عبد
اللَّه سل بحرمتك فإن حرمة المؤمن أعظم عند اللَّه من حرمة هذا البيت، فقال يا رسول
اللَّه إن لي ذنباً عظيماً، قال وما ذنبك؟ قال إن لي مالاً كثيراً وإن ماشيتي كثيرة
وإن خيلي كثيرة، ولكن الرجل إذا سألني شيء من مالي فكأن شعلة من نار تخرج من وجهي،
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم تنح عني يا فاسق لا تحرقني بنارك والذي نفسي
بيده لو صمت ألف عام وصليت ألف عام ثم مت لئيماً لأكبك اللَّه في النار، أما علمت
أن اللؤم من الكفر والكفر في النار والسخاوة من الإيمان والإيمان في الجنة". وروت
عائشة رضي اللَّه تعالى عنها عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "السخاوة شجرة
أصلها في الجنة وأغصانها متدلية في الدنيا فمن تعلق بغصن منها مده إلى الجنة،
والبخل شجرة أصلها في النار وأغصانها متدلية في الدنيا فمن تعلق بغصن منها مده إلى
النار". وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "البخيل بعيد من اللَّه بعيد من
الجنة بعيد من الناس قريب من النار.
والسخي قريب من اللَّه قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار" وعن النبي صلى
اللَّه عليه وسلم أنه قال "حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة واستقبلوا
أنواع البلاء بالدعاء" وعن عبد الرحمن السلماني مولى عمر رضي اللَّه تعالى عنه عن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "إذا سأل سائل فلا تقطعوا عليه مسألته
حتى يفرغ منها ثم ردوا عليه بوقار ولين ببذل يسير أو برد جميل، فإنه قد يأتيكم من
ليس بإنس ولا جان ينظرون كيف صنيعكم فيما خولكم اللَّه " وروى سعيد بن مسعود الكندي
قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم "ما من رجل يتصدق في يوم أو ليلة إلا
حفظ من أن يموت من لدغة أو هدمة أو موت بغتة" وروى أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه
عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "ما نقص مال من صدقة قط، ولا عفا رجل عن
مظلمة إلا زاده اللَّه بها عزا، وما تواضع رجل لله إلا رفعه اللَّه تعالى" وروى
عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: اثنان من الشيطان واثنان من اللَّه
تعالى، ثم قرأ هذه الآية {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ
بِالفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} يعني
يأمركم بالطاعة
والصدقة لتنالوا مغفرته وفضله {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} يعني واسع الفضل عليم
بثواب من يتصدق. وروى ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم "ما نقض قوم
العهد إلا ابتلاهم اللَّه تعالى بالقتل، ولا ظهرت فاحشة في قوم إلا سلط اللَّه
عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة إلا حبس اللَّه عنهم القطر" وروى الضحاك عن النزال
بن سبرة قال: مكتوب على باب الجنة ثلاثة أسطر: أولها لا إله إلا اللَّه محمد رسول
الله، والثاني: أمة مذنبة ورب غفور، والثالث وجدنا ما عملنا ربحنا ما قدمنا خسرنا
ما خلفنا، ويقال من منع خمساً منع اللَّه منه خمساً: أوّلها من منع الزكاة منع
اللَّه منه حفظ المال، والثاني من منع الصدقة منع اللَّه منه العافية، والثالث من
منع العشر منع اللَّه منه بركة أرضه، والرابع من منع الدعاء منع اللَّه منه
الإجابة، والخامس من تهاون بالصلاة منه عند الموت قول لا إله إلا الله. وروى عن ابن
مسعود رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: درهم ينفقه أحدكم في صحته وشحه أفضل من مائة
يوصى بها عند الموت.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: سمعت أبي رحمه اللَّه تعالى قال:
كان في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام رجل يسمى ملعوناً من بخله، فجاءه رجل ذات يوم
يريد الغزو، فقال يا ملعون أعطني شيئاً من السلاح أستعين به في غزوي وتنجو به من
النار، فأعرب عنه ولم يعطه شيئا فرجع الرجل فندم الملعون فناداه فأعطاه سيفه، فرجع
الرجل واستقبله عيسى عليه السلام مع عابد قد عبد اللَّه سبعين سنة، فقال له عيسى من
أين جئتم بهذا السيف؟ فقال أعطانيه الملعون، ففرح عيسى بصدقته، فكان الملعون قاعداً
على بابه، فلما مرّ به عيسى عليه السلام مع العابد فقال الملعون في نفسه أقوم وأنظر
إلى وجه عيسى وإلى وجه العابد، فلما قام ونظر إليهما قال العابد أنا أفر وأعدو من
هذا الملعون قبل أن يحرقني بناره، فأوحى اللَّه عز وجلّ إلى عيسى عليه السلام أن قل
لعبدي هذا المذنب إني قد غفرت له بصدقته بالسيف وبحبه إياك، وقل للعابد إنه رفيقك
في الجنة، فقال العابد والله ما أريد
الجنة معه ولا أريد رفيقاً مثله، فأوحى اللَّه
عز وجلّ إلى عيسى عليه السلام أن قل لعبدي: إنك لم ترض بقضائي وحقرت عبدي فإني قد
جعلتك ملعونا من أهل النار، وبدلت منازلك في الجنة مع الذي له في النار، وأعطيت
منازلك في الجنة لعبدي ومنازله في النار لك. وروى أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه
عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "إن ملكاً ينادي من أبواب السماء يقول من
يقرض اليوم يجد غداً، وملك آخر ينادي يا معشر بني آدم لدوا للموت وابنوا للخراب"
وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه سأل فقيل يا رسول اللَّه إذا خرجت من
الدنيا فظهر الأرض خيراً لنا أم بطنها؟ قال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال
النبي صلى اللَّه عليه وسلم "إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم أسخياءكم
وأموركم
شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم
وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها" وعن عبد اللَّه
بن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: إن استطعت أن تجعل كنزك حيث لا يأكله السوس
ولا تناله اللصوص فافعل بالصدقة. وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "من
أدى الزكاة وأقرى الضيف وأدى الأمانة فقد وقى شح نفسه" يعني دفع البخل عن
نفسه.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: عليك بالصدقة بما قل أو كثر فإن في
الصدقة عشر خصال محمودة: خمسة في الدنيا وخمسة في الآخرة، فأما الخمسة التي في
الدنيا: فأولها تطهير المال كما قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم "ألا إن البيع
يحضره اللغو والحلف والكذب فشوبوه بالصدقة" والثاني أن فيها تطهير البدن من الذنوب
كما قال اللَّه عز وجلّ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}، والثالث أن فيها دفع البلاء والأمراض كما قال النبي صلى
اللَّه عليه وسلم "داووا مرضاكم بالصدقة" والرابع أن فيها إدخال السرور على
المساكين وأفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمنين، والخامس أن فيها بركة في المال
وسعى في الرزق كما قال اللَّه تعالى {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ
يُخْلِفُهُ}. وأما الخمسة التي في الآخرة، فأولها أن تكون الصدقة ظلاً لصاحبها من
شدة الحر، والثاني أن فيها خفة الحساب، والثالث أنها تثقل الميزان، والرابع جواز
على الصراط، والخامس زيادة الدرجات في الجنة، ولو لم يكن في الصدقة فضيلة سوى دعاء
المساكين لكان الواجب على العاقل أن يرغب فيها فكيف وفيها رضى اللَّه تعالى ورغم
الشيطان، لأنه روى في الخبر "إن الرجل لا يستطيع أن يتصدق ما لم يفك لحيي سبعين
شيطانا" وفيها الاقتداء بالصالحين لأن الصالحين كانت همتهم في
الصدقة.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: حدثنا محمد بن الفضل بإسناده عن
محمد بن المنكدر عن أم ذر، وكانت تدخل على عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: بعث
عبد اللَّه بن الزبير إلى عائشة رضي اللَّه تعالى عنها بمال في غرارتين فيهما
ثمانون ومائة ألف درهم وهي صائمة، فجعلت تقسم بين الناس فأمست وما عندها من ذلك
درهم، فلما أمست قالت يا جارية هلمي فطوري فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أما استطعت
فيما قسمت هذا اليوم أن تشتري لنا لحماً بدرهم! قالت: لا تعنفيني لو كنت ذكرتيني
لفعلت. وعن عروة بن الزبير قال: لقد رأيت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها تصدقت بسبعين
ألف درهم وإنها لترفع جانب درعها. وذكر أن عبد الملك بن أبجر ورث خمسين ألف درهم
فبعث إلى إخوانه صررا وقال: كنت أسأل لإخواني الجنة، فكيف أبخل عليهم بالدنيا. وذكر
في الخبر: أن امرأة جاءت إلى حسان بن أبي سنان فسألته شيئاً، فجعل ينظر
إليها فإذا هي
امرأة جميلة فقال يا غلام أعطها أربعمائة فقيل له يا عبد اللَّه سائلة تسألك درهما
فأعطيتها أربعمائة درهم؟ فقال لما نظرت إلى جمالها خشيت أن نفتتن فتقع في المعصية
فأحببت أن أغنيها فعسى أن يرغب فيها أحد فيتزوجها. وذكر في الخبر أن رجلاً من أصحاب
النبي صلى اللَّه عليه وسلم أهدى إليه برأس شاة فقال أخي فلان أحوج مني فبعث إليه،
فقال الذي بعث إليه: إن فلانا أحوج مني فبعث إليه، فلم يزل يبعث به واحد بعد واحد
حتى تداولت سبعة أبيات ثم رجع إلى الأول فنزل قوله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ويقال إن نزول هذه الآية كان في شأن
رجل من الأنصار، وذلك ما رواه الحسن "أن رجلاً أصبح على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلم صائماً فلما أمسى لم يجد ما يفطر عليه إلا الماء فشرب، ثم أصبح صائماً ثم
أمسى لم يجد ما يفطر عليه إلا الماء فشرب، ثم اصبح صائماً فلما كان اليوم الثالث
أجهده الجوع، ففطن به رجل من الأنصار فلما أمسى أتى به منزله فقال لأهله قد نزل بنا
الليلة ضيف فهل عندنا طعام فقالت إن عندنا من الطعام ما يشبع الواحد وكانا صائمين
ولهما صبي، فقال لها إن نطعم ذلك ضيفنا ونصبر الليلة، فنوّمي الصبي قبل وقت العشاء
وإذا قربت الطعام فأطفىء السراج حتى يرى الضيف أنا نأكل معه حتى يشبع فجاءت بثريدة
فوضعتها ثم دنت من السراج كأنها تصلحه فأطفأته فجعل الأنصاري يضع يده في القصعة بين
يديه ولا يأكل شيئاً فأكل الضيف حتى أتى على ما في القصعة، فلما أصبح الأنصاري صلى
مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الفجر فلما سلم النبي صلى اللَّه عليه وسلم
أقبل على الأنصاري وقال لقد عجب اللَّه تعالى من صنيعكما يعني رضى به وتلا هذه
الآية {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يعني
يؤثرون بما عندهم لغيرهم ويمنعون أنفسهم وإن كان بهم مجاعة {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمْ المُفْلِحُونَ} يعني من يدفع البخل عن نفسه
فأولئك هم الناجون من عذابه. وذكر عن حامد اللفاف رحمه اللَّه تعالى أنه قال: إني
لأرضى منكم بأربعة وإن كان السلف على خلاف ذلك: أحدها أن تهتموا لتقصير الفريضة كما
كانوا يهتمون لتكثير الفضيلة، والثاني أن تخافوا اللَّه في ذنوبكم أن لا تغفر كما
كانوا يخافون على الطاعة أن لا تقبل، والثالث أن تزهدوا في الحرام كما كانوا يزهدون
في الحلال، والرابع أن تؤتوا الشفقة والمعروف إلى إخوانكم وأصدقائكم كما كانوا
يؤتونهما إلى أعدائهم.