(قال الفقيه) قد أخبر النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن كل مسكر حرام: يعني ما كان مطبوخاً أو غير مطبوخ، وهذا كما روي عن جابر بن عبد اللَّه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وفي رواية "ما أسكر منه الفرق فالجرعة منه حرام" والفرق: ستة عشر رطلاً في اللغة.(قال الفقيه) رحمه اللَّه تعالى: شارب الخمر المطبوخ أعظم ذنباً وإثماً من شارب الخمر لأن شارب الخمر يكون عاصياً فاسقاً، ومن شرب المطبوخ يخاف أن يصير كافراً لأن شارب الخمر مقرّ بأنه يشرب الخمر وهو حرام وشارب المطبوخ يشرب المسكر ويراه حلالاً، وأجمع المسلمون أن شرب المسكر حرام قليله وكثيره فإذا استحل ما هو حرام بالإجماع صار كافرا.
وروى سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال "أربعة لا يجدون ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام: البخيل والمنان ومدمن الخمر والعاق لوالديه".
وروت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "من أطعم شارب الخمر لقمة سلط اللَّه على جسده حية وعقربا، ومن قضى حاجته فقد أعان على هدم الإسلام ومن أقرضه قرضاً فقد أعان على قتل مؤمن، ومن جالسه حشره اللَّه تعالى يوم القيامة أعمى لا حجة له، ومن شرب الخمر فلا تزوجوه فإن مرض فلا تعودوه وإن شهد فلا تقبلوا شهادته، فوالذي بعثني بالحق نبياً إنه ما يشرب الخمر إلاّ ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ومن شرب الخمر فقد كفر بجميع ما أنزل اللَّه على أنبيائه ولا يستحل الخمر إلاّ كافر ومن استحل الخمر فأنا منه برئ في الدنيا والآخرة". وعن عطاء بن يسار أن رجلاً سأل كعب الأحبار رضي
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه إياك وشرب الخمر فإن فيه عشر خصال مذمومة. أولها أنه إذا شرب الخمر يصير بمنزلة المجنون ويصير ضحكة للصبيان ومذمة عند العقلاء كما ذكر عن ابن أبي الدنيا أنه قال: رأيت سكران في بعض سكك بغداد يبول وهو يتمسح ببوله وهو يقول اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. وذكر أن سكران قاء في بعض الطرق وجاء كلب يمسح فمه ولحيته وهو يقول للكلب يا سيدي يا سيدي لا تفسد المنديل. الثاني أنها متلفة للمال مذهبة للعقل كما قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: يا رسول اللَّه أرنا رأيك في الخمر فإنها متلفة للمال مذهبة للعقل. والثالث أن شربها سبب للعداوة بين الإخوان والأصدقاء، كما قال اللَّه تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ} وهو القمار. والرابع أن شربها يمنعه عن ذكر اللَّه وعن الصلاة كما قال تعالى {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} يعني انتهوا عنها، فلما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: قد انتهينا يا رب. والخامس أن شربها يحمله على الزنا لأنه إذا شرب الخمر يطلق امرأته وهو لا يشعر. والسادس أنها مفتاح كل شر لأنه إذا شرب الخمر سهل عليه جميع المعاصي. والسابع أنه يؤذي حفظته بإدخالهم في مجلس الفسق وبوجود الرائحة المنتنة منه فلا ينبغي أن يؤذي من لا يؤذيه. والثامن أنه أوجب على نفسه ثمانين جلدة فإن لم يضرب في الدنيا فإنه يضرب في الآخرة بسياط من النار على رؤوس الناس ينظر إليه الآباء والأصدقاء. والتاسع أنه رد باب السماء على نفسه لأنه لا ترفع له حسناته ولا دعاؤه أربعين يوماً. والعاشر أنه مخاطر بنفسه لأنه لا يخاف عليه أن ينزع منه الإيمان عند موته، فهذه العقوبات في الدنيا قبل أن ينتهي إلى عقوبات الآخرة، فأما عقوبات الآخرة فإنها لا تحصى من شرب الحميم والزقوم وفوت الثواب، فلا ينبغي للعاقل أن يختار لذة قليلة ويترك لذة طويلة.
وروي عن مقاتل بن سليمان رضي اللَّه تعالى عنه في قوله تعالى {يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْداً. وَنَسُوقُ المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} أي عطاشا قال: يحشر أهل الجنة فإذا انتهوا إلى باب الجنة إذا هم بشجرة ينبع من تحتها عينان فيشربون من إحدى العينين فلا يبقى في بطونهم قذر إلاّ خرج من الجوف، ثم يأتون العين الأخرى فيغتسلون فيها فلا يبقى في أجسادهم شيء مما يكون على الجسد من وسخ وغيره إلاّ ذهب فذلك قوله تعالى {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ثم يؤتون بنجائب من الإبل من ياقوت أحمر رجلاها من ذهب مكللة بالدرّ والياقوت أزمتها من اللؤلؤ فيكسي كل رجل منهم حلتين، لو أن الحلة منهما أشرقت لأهل الدنيا لأضاءت لهم، ومع كل واحد منهم حفظة من الملائكة يدلونه على مساكنه في الجنة فإذا دخل الجنة رفع له قصر من فضة شرفه من الذهب فإذا انتهى إليه استقبله وصائف كثيرة كاللؤلؤ المنثور معهم الحلى والحلل وآنية الفضة وأكواب الذهب والملائكة يسلمون عليه فيردّ عليهم، ثم يدخل فإذا رأى ما أعد اللَّه له من المنازل والكرامة تهيأ للنزول فتقول له حفظته ما تريد؟ فيقول أريد النزول إلى كرامة الله، فيقولون له سر فإنّ لك ما هو أفضل من هذا فإذا سار رفع له قصر من ذهب شرفه من اللؤلؤ فإذا دنا منه استقبلته الوصائف كاللؤلؤ المنثور معهنّ آنية من فضة وأكواب من ذهب فيسلمن عليه فيردّ عليهنّ السلام، فيريد النزول فيها فتقول له حفظته سر فإن لك ما هو أفضل من هذا فإذا سار رفع له قصر من ياقوتة حمراء يرى باطنه من ظاهره من صفائه فإذا دنا استقبلته الوصائف كما استقبلته من القصرين الأوّلين يسلمن عليه فيرد عليهن السلام، فإذا دخل استقبلته حوراء من الحور العين عليها سبعون حلة لا تشبه الحلة الحلة الأخرى ليس عليها مفصل إلاّ وعليه حلة يوجد ريحها من مسيرة مئة عام فإذا نظر إلى وجهها أبصر وجهه فيه من صفاء وجهها فإذا نظر إلى صدرها أبصر كبدها من رقة ثيابها ويبصر من مخ ساقها من رقة عظمها، وجلدها، وهي في بيت فرسخ في فرسخ وسمكه: أي طوله، مثل ذلك عليه أربعة آلاف مصراع من ذهب فيه بساط من ذهب مكلل باللؤلؤ وقد نسق البيت وفيه سرير عليه من الفرش بمنزلة سبعين غرفة من غرف الدنيا فإذا جلس واشتهى الثمرة سارت إليه الثمرة حتى يأكل منها أو يذهب به سريره حتى يأكل منها، وهذا كله ثواب المتقين الذين يتقون شرب الخمر والفواحش. قال ويساق أهل النار إلى النار فإذا دنوا منها فتحت أبوابها فاستقبلتهم الملائكة بمقامع الحديد فإذا دخلوا النار لم يبق منهم عضو إلاّ لزمه عذاب إما حية تنهشه أو نار تسفعه أو ملك يضربه، فإذا ضربه الملك هوى في النار مقدار أربعين عاما لا يبلغ قرارها ثم يرفعه اللهب ويضربه الملك فيهوى في النار فإذا بدا برأسه ضربه الأخرى وهو قوله تعالى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ
وروى عن أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "بعثني اللَّه تعالى هدى ورحمة للعالمين، وبعثني لأمحو المعازف والمزامير وأمر الجاهلية والأوثان، وحلف ربي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي الخمر في الدنيا إلاّ حرمتها عليه يوم القيامة، ولا يتركها عبد من عبيدي إلاّ سقيته من حظيرة القدس". قال أوس بن سمعان: والذي بعثك بالحق إني لأجدها في التوراة محرمة خمساً وعشرين مرة، ويل لشارب الخمر وحق على اللَّه أن لا يشربها عبد من عبيده في الدنيا إلاّ سقاه من طينة الخبال. وروى مالك عن محمد بن المنكدر أنه قال: يقول اللَّه تعالى يعني يوم القيامة {أين الذين ينزهون أنفسهم وأسماعهم في الدنيا عن اللهو ومزامير الشيطان اجعلوهم في رياض المسك، ثم يقول للملائكة أسمعوهم صوت حمدي وثنائي وأخبروهم أن لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وروى عن أبي وائل عن شقيق بن سلمة أنه دعي إلى وليمة فرأى فيها لعابين فرجع، ثم سمعت ابن مسعود يقول: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وروى عطاء بن السائب عن عبد الرحمن السلمي قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يومئذ معاوية بن أبي سفيان وقالوا هي لنا حلال لأن اللَّه تعالى قال {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية، فكتب فيهم إلى عمر رضي اللَّه تعالى عنه بذلك وكتب عمر أن ابعثهم إليّ قبل أن يفسدوا من قبلك، فلما قدموا على عمر رضي اللَّه تعالى عنه جمع لهم أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فشاورهم في ذلك فقالوا: يا أمير المؤمنين أنهم افتروا على اللَّه وشرعوا في دينه ما لم يأذن به اللَّه فاضرب أعناقهم، وعلي رضي اللَّه تعالى عنه ساكت في القوم. قال: قال لعلى ما ترى؟ قال أرى أن تستتيبهم فإن لم يتوبوا فاضرب أعناقهم، وإن تابوا فاضربهم ثمانين جلدة فاستتابهم فتابوا فضربهم ثمانين جلدة. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما أنه قال لما نزلت آية تحريم الخمر قالوا فكيف إخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنزل قوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية، يعني لا إثم على الذين شربوا قبل التحريم.