قالوا بلى يا أمير المؤمنين، قال من لم يؤيس الناس من روح الله، ومن لم يقنط الناس من رحمة اللَّه تعالى، ومن لم يؤمن الناس من مكر الله، ومن لم يزين للناس معاصي الله، ولا ينزل العارفين الموحدين الجنة، ولا ينزل العاصين المذنبين النار حتى يكون الرب هو الذي يقضي بينهم، لا يأمنن خير هذه الأمة من عذاب الله، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّه إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ} ولا ييأس شرّ هذه الأمة من روح الله، والله عز وجل يقول: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّه إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ}. قال: حدثنا محمد بن الفضل حدثنا محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثنا الحكم بن يعقوب عن عيسى بن المسيب عن يزيد الرقاشي قال: إذا دخل الرجل القبر قامت الصلاة عن يمينه والزكاة عن شماله والبرّ يطل عليه، والصبر يحاجّ عنه يقول: دونكم صاحبكم فإن حججتم وإلا فأنا من ورائه: يعني إن استطعتم أن تدفعوا عنه العذاب وإلا أنا أكفيكم ذلك وادفع عنه العذاب، ففي هذه الأخبار دليل على أن الصبر أفضل الأعمال والله تعالى يقول {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وروى عن أبي ورّاد عن محمد بن مسلمة يرفعه إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم "أن رجلاً قال يا رسول اللَّه ذهب مالي وسقم جسمي، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم "لا خير في عبد لا يذهب ماله ولا يسقم جسمه إن اللَّه إذا أحب عبداً ابتلاه وإذا ابتلاه صبره" وعن علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه قال: إيما رجل حبسه السلطان ظلماً فمات في حبسه فهو شهيد، فإن ضربه فمات فهو شهيد. وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "إن الرجل لتكون له الدرجة عند اللَّه لا يبلغها بعمله حتى يبتلى ببلاء في جسمه فيبلغها بذلك". وروى في الخبر "أنه لما نزل قوله تعالى {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه: يا رسول اللَّه كيف الفرح بعد هذه الآية؟ فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: غفر اللَّه لك يا أبا بكر، ألست تمرض، أليس يصيبك الأذى أليس تنصب أليس تحزن؟فهذا مما تجزون به" يعني أن جميع ما يصيبك يكون كفارة لذنوبك. وروى عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية خرج علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقال: قد أنزلت علي آية هي خير لأمتي من الدنيا وما فيها، ثم قرأ هذه الآية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} ثم قال: إن العبد إذا أذنب ذنباً فتصيبه شدة أو بلاء في الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه تاليا".
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: اعلم أن العبد لا يدرك منزلة الأخيار، إلا بالصبر على الشدة والأذى، وقد أمر اللَّه تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر فقال {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} وروى عن خباب بن الأرتّ رضي اللَّه تعالى عنه قال "أتينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو متوسد بردائه في ظل الكعبة فشكونا إليه، فقلنا يا رسول اللَّه ألا تدعو اللَّه ألا تستنصر اللَّه لنا فجلس محمراً لونه ثم قال: إن من كان قبلكم كان ليؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض حفرة ويجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه". وروى عن حميد عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال "يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الأرض فيغمس في النار غمسةً فيخرج أسود محترقاً، فيقال له: هل مرّ بك نعيم قط إذ كنت فيها؟ فيقول لا لم أزل في هذا البلاء منذ خلقني، ويؤتى بأشد أهل الدنيا بلاء فيغمس في الجنة غمسه: يعني يدخل فيها ساعة، فيخرج كأنه القمر ليلة البدر، فيقال له هل مر بك شدة قط فيقول لا لم أزل في هذا النعيم منذ خلقني". وروى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "أوّل من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون اللَّه على السراء والضراء". فالواجب على العبد أن يصبر على ما يصيبه من الشدة ويعلم أن ما دفع اللَّه عنه من البلاء أكثر مما أصابه ويحمد اللَّه تعالى على ذلك، وينبغي للعبد أن يقتدي بنبيه صلى اللَّه عليه وسلم وينظر إلى صبره على أذى المشركين، وروى عن عمر بن ميمون عن ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه قال: "بينما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحابه جلوس وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل لعنه اللَّه أيكم يقوم إلى سلا الجزور فيلقيه على كتف محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي صلى اللَّه عليه وسلم وضعه بين كتفيه فاستضحكوا، وأنا قائم أنظر: قلت: لو كان لي منعة لطرحته عن ظهر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: والنبي صلى اللَّه عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة رضي اللَّه تعالى عنها، وجاءت وهي جويرية فطرحته ثم أقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم صلاته رفع صوته فدعا عليهم فقال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ودعاءه ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته، فقال اللهم عليك بأبي جهل وعقبة وعتبة وشيبة والوليد بن المغيرة وأمي بن خلف. قال عبيد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه: والذي بعث محمداً بالحق لقد رأيت الذين سماهم صرعى يوم بدر". وروى عبد اللَّه بن الحارث عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: "شكا نبيٌ من الأنبياء إلى ربه فقال يا رب العبد المؤمن يطيعك ويجتنب معاصيك تزوى عنه الدنيا وتعرض له البلاء، ويكون العبد الكافر لا يطيعك ويجترئ على معاصيك تزوى عنه البلاء وتبسط له الدنيا؟ فأوحى اللَّه تعالى إليه إن العباد لي والبلاء لي وكل يسبح بحمدي، فيكون المؤمن عليه من الذنوب فأزوى عنه الدنيا وأعرض له البلاء فيكون كفارة لذنوبه حتى يلقاني فأجزيه بحسناته، ويكون الكافر له السيئات فأبسط له في الرزق فأزوى عنه البلاء حتى يلقاني فأجزيه بحسناته، ويكون الكافر له السيئات فأبسط له في الرزق فأزوى عنه البلاء حتى يلقاني فأجزيه بسيئاته". قال: حدثنا أبو أحمد عبد الوهاب بن محمد الفلاني بسمرقند بإسناده عن حميد الطويل عن أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم "إذا أراد اللَّه بعبد خيراً أو أراد أن يصافيه صب عليه البلاء صباً، وثجه عليه ثجاً، وإذا دعاه قالت الملائكة يا رب صوت معروف، فإذا دعاه الثانية فقال يا رب قال اللَّه تعالى لبيك وسعديك لا تسألني شيئاً! ألا أعطيتك أو دفعت عنك ما هو شر وادّخرت عندي لك ما هو أفضل منه، فإذا كان يوم القيامة جيء بأهل الأعمال فوفوا أعمالهم بالميزان أهل الصلاة والصيام والصدقة والحج، ثم يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم الميزان ولا ينشر لهم الديوان ويصب عليهم الأجر صبا كما يصب عليهم البلاء، فيودّ أهل العافية في الدنيا لو أنهم كانت تقرض أجسادهم بالمقاريض لما يرون مما يذهب به أهل البلاء من الثواب فذلك قوله تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ". ذكر في الخبر أن مؤمناً وكافراً في الزمن الأوّل انطلقا يصيدان السمك فأخذ الكافر يذكر آلهته، فما رفع شبكته حتى أخذ سمكاً كثيراً، وجعل المؤمن يذكر اللَّه فلا يجيء شيء ثم أصاب سمكة عند الغروب واضطربت فوقعت في الماء، فرجع المؤمن وليس معه شيء ورجع الكافر وقد امتلأت شبكته، فأسف ملك المؤمن الموكل به، فلما صعد إلى السماء أراه اللَّه مسكن المؤمن في الجنة فقال: والله ما يضره ما أصابه بعد أن يصير إلى هذا، وأراه مسكن الكافر في النار فقال: والله ما يغني عنه ما أصاب من الدنيا بعد أن يصير إلى هذا، ويقال إن اللَّه تعالى يحتج يوم القيامة بأربعة على أربعة أجناس: يحتج على الأغنياء بسليمان ابن داود عليهما السلام فإذا قال الغنيّ الغنى شغلني عن عبادتك يحتج عليه بسليمان ويقول له لم تكن أغنى من سليمان فلم يمنعه غناه عن عبادتي، ويحتج على العبيد بيوسف عليه الصلاة والسلام فيقول العبد كنت عبداً والرق منعني عن عبادتك فيقول له إن يوسف عليه السلام لم يمنعه رقه عن عبادتي، وعلى الفقراء بعيسى عليه الصلاة والسلام فيقول الفقير إن حاجتي منعتني عن عبادتك فيقول أنت كنت أحوج أم عيسى وعيسى لم يمنعه فقره عن عبادتي، وعلى المرضى بأيوب عليه السلام فيقول المريض منعني المريض عن عبادتك فيقول مرضك كان أشد أم مرض أيوب عليه السلام فلم يمنعه مرضه عن عبادتي، فلا يكون لأحد عند اللَّه عذر يوم القيامة، وكان الصالحون رحمهم اللَّه تعالى يفرحون بالمرض والشدة لأجل أن فيه كفارة للذنوب. وذكر عن أبي الدردار رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: الناس يكرهون الفقر وأنا أحبه، ويكرهون الموت وأنا أحبه، ويكرهون السقم وأنا أحب السقم تكفيراً لخطاياي، وأحب الفقر تواضعاً لربي، وأحب الموت اشتياقاً إلى ربي.
وروى عن ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "ثلاث من رزقهن فقد رزق خيري الدنيا والآخرة: الرضا بالقضاء، والصبر على البلاء، والدعاء عند الرخاء" قال: حدثنا الفقيه أبو جعفر بإسناده عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهو مستلق، فقال: من أي شيء تشتكي؟ قال الخمص. يعني الجوع، فبكى الرجل ثم ذهب يعمل فاستقى لرجل دلاء كل دلو بتمرة، ثم جاء إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم بشيء من تمر، فقال ما أراك فعلت هذا إلا وأنت تحبني، قال: إي والله إني لأحبك: قال إن كنت صادقاً فأعد للبلاء جلباباً، فو اللَّه للبلاء أسرع إلى من يحبني من السيل، من أعلى الجبل إلى الحضيض" وعن عقبة بن عامر رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "إذا رأيتم الرجل يعطيه اللَّه تعالى ما يحب وهو مقيم على معصيته فاعلموا أن ذلك استدراج، ثم قرأ قول اللَّه عز وجل {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} " يعني لما تركوا ما أمروا به فتحنا عليهم أبواب الخير {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} يعني بما أعطوا من الخير {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} يعني فجأة {فَإِذَا مُبْلِسُونَ} يعني آيسين من كل خير. وروى أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم "أنه سأل أي الناس أشد بلاء؟ قال الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل" ويقال ثلاث من كنوز البر: كتمان الصدقة وكتمان الوجع، وكتمان المصيبة. وذكر عن وهب بن منبه أنه قال: كتبت من كتاب رجل من الحواريين. إذا سلك بك سبيل البلاء فقر عيناً فإن يسلك بك سبيل الأنبياء والصالحون، وإذا سلك بك سبيل الرخاء فابك على نفسك فقد خولف بك عن سبيلهم. وذكر أن اللَّه تعالى أوحى إلى موسى بن عمران عليه السلام نحو هذا. وذكر عن فتح الموصلي رحمه اللَّه تعالى أنه أصابته خصاصة في أهله فقال: إلهي ليتني علمت بأي عمل ألزمتني بهذا حتى ازداد من ذلك. وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "من قلّ ماله وكثر عياله وحسنت صلاته ولم يغتب المسلمين جاء معي يوم القيامة هكذا وجمع أصبعيه" وروى عن مجاهد عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال "والذي لا إله إلا هو إني كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وإني كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب اللَّه تعالى ما سألته عنها إلا ليستتبعني: يعني لكي يذهب بي إلى منزله، فمر ولم يفعل، ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية ما سألته عنها إلا ليستتبعني فمر ولم يفعل، ثم مر النبي صلى اللَّه عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي ثم قال: يا أبا هريرة، قلت لبيك يا رسول اللَّه قال: إلحق بي ومضى، فاتبعته واستأذنت فأذن لي، فدخلت فوجدت لبناُ في قدح، فقال من أين هذا؟ قالوا أهداه لك فلان أو فلانة، قال يا أبا هريرة قلت لبيك، قال إلحق بأهل الصفة وادعهم إلي فساءني ذلك فقلت وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها ولكن لم يكن بد من طاعة اللَّه وطاعة رسوله، فانتهيت فدعوتهم فأقبلوا حتى استأذنوا فأذن لهم فأخذوا مجالسهم، فقال يا أبا هريرة خذ وأعطهم، فأخذت القدح فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد عليّ القدح حتى انتهيت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقد روى القوم كلهم، فأخذ القدح ووضعه على يديه فقال: يا أبا هريرة، قلت لبيك يا رسول الله، قال بقيت أنا وأنت، قلت صدقت يا رسول الله، قال أقعد واشرب، فقعدت وشربت، قال إشرب فشربت فما زال يقول إشرب فأشرب حتى قلت والذي بعثك بالحق نبياً ما أجد مسلكاً فأعطيته القدح فحمد اللَّه وشرب النبي صلى اللَّه عليه وسلم الفضل".