قال: حدثنا الفقيه أبو الليث رضي اللَّه تعالى عنه حدثنا الفقيه أبو
جعفر حدثنا محمد بن عقيل حدثنا محمد بن إسمعيل الصائغ حدثنا الحجاج حدثنا شعبة عن
عمرو بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد ابن ثابت رضي اللَّه عنه عن
النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "من كانت نيته الآخرة جمع اللَّه شمله وجعل
غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغبة، ومن كانت نيته في الدنيا فرّق اللَّه عليه
أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأتيه من الدنيا إلا ما كتب اللَّه له" وبه قال:
حدثنا أبو جعفر حدثنا محمد بن عقيل حدثنا محمد بن علي حدثنا
أبو غسان النهدي حدثنا
عمر بن زياد الهلالي عن الأسود بن قيس قال: سمعت جندبا قال "دخل عمر رضي اللَّه
تعالى عنه على النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهو على حصير وقد أثر بجنبه الشريف، فبكى
عمر رضي اللَّه تعالى عنه فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم ما يبكيك يا عمر؟ قال
ذكرت كسرى وقيصر وما كانا فيه من الدنيا وأنت رسول اللَّه صلى اللَّه عليك وسلم وقد
أثر بجنبك الشريط، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم أولئك قوم عجلت لهم طيبانهم في
حياتهم الدنيا ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا في الآخرة" وبه قال: حدثنا الفقيه أبو
جعفر رحمه اللَّه تعالى حدثنا علي بن أحمد حدثنا محمد بن الفضل حدثنا يعلي بن
إسماعيل عن ذر عن زبيد قال: قال عليّ رضي اللَّه تعالى عنه: إنما أخشى عليكم
اثنتين، طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصدّ عن
الحق، وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة والآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من
أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وإن غدا حساب ولا
عمل: يعني أكثروا من العمل في هذا اليوم فإنكم لا تقدرون غداً على العمل. وبه قال:
حدثنا الفقيه أبو جعفر حدثنا الثقة بإسناده عن الحسن البصري قال: "طلبت خطبة النبي
صلى اللَّه عليه وسلم التي كان يخطب بها كل جمعة أربع
سنين فلم أقدر عليها، حتى بلغني أنها عند رجل من الأنصار فأتيته فإذا هو جابر بن
عبد اللَّه رضي اللَّه تعالى عنهما. فقلت له أنت سمعت خطبة النبي صلى اللَّه عليه
وسلم التي كان يخطب بها كل جمعة؟ قال نعم سمعته يقول: صلى اللَّه عليه وسلم: أيها
الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، وإن
العبد المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما اللَّه صانع به، وبين أجل قد
بقي لا يدري ما اللَّه قاض فيه، فليزود العبد من نفسه لنفسه ومن حياته لموته ومن
شبابه لكبره ومن دنياه لآخرته فإن الدنيا خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة فوالذي نفسي
بيدهما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار، أقول قولي هذا
وأستغفر اللَّه لي ولكم) وذكر عن سهل بن عبد اللَّه التستري أنه كان ينفق ماله في
طاعة اللَّه تعالى فجاءت أمه
وأخوته إلى عبد اللَّه بن المبارك يشكونه وقالوا: إن هذا لا يمسك شيئاً ونخشى عليه
الفقر، فأراد عبد اللَّه أن يعينهم عليه، فقال له سهل: يا أبا عبد الرحمن أرأيت لو
أن رجلاً من أهل المدينة اشترى ضيعة برستاق وهو يريد أن يتحوّل من المدينة إليها
أيخلف بالمدينة شيئاً وهو يسكن الرستاق؟ قال عبد اللَّه خصمكم، يعني أنه إذا أراد
أن يتحول إلى الرستاق لا يترك في المدينة شيئاً فالذي يريد أن يتحول من الدنيا إلى
الآخرة كيف يترك في الدنيا شيئاَ.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: من كان عاقلاً فإنه يرضى بالقوت من
الدنيا ولا يشتغل بالجمع ويشتغل بعمل الآخرة، لأن الآخرة هي دار القرار ودار النعيم
والدنيا دار فناء وهي غدارة مفتنة. وروى جويبر عن الضحاك قال: لما أهبط اللَّه آدم
وحوّاء إلى الأرض ووجدا ريح الدنيا وفقدا رائحة الجنة غشى عليهما أربعين صباحاً من
الدنيا.
وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "يا عجباً كل العجب
للمصدق بدار الخلود وهو يعمل لدار الغرور" وروى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد
اللَّه رضي اللَّه تعالى عنهما قال: "شهدت مجلساً من مجالس رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلم إذ أتاه رجل أبيض الوجه حسن الشعر واللون عليه ثياب أبيض، فقال السلام
عليك يا رسول الله، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم وعليك السلام ورحمة الله، فقال
يا رسول الله: ما الدنيا، قال: حلم المنام وأهلها مجازون ومعاقبون، قال يا رسول
اللَّه وما الآخرة؟ قال الأبد، فريق في الجنة وفريق في السعير. فقال يا رسول اللَّه
وما الجنة؟ قال بدل الدنيا لتاركها نعيمها أبدا، قال فما جهنم؟ قال بدل الدنيا
لطالبها لا يفارقها أهلها أبدا، قال فمن خير هذه الأمة؟ قال الذي يعمل فيها بطاعة
اللَّه تعالى، قال فكيف يكون الرجل فيها؟ قال مشمراً كطالب القافلة، قال فكم القرار
بها؟ قال كقدر المتخلف عن القافلة، قال فكم ما بين الدنيا والآخرة؟ قال كغمضة عين،
قال فذهب الرجل فلم ير، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم هذا جبريل أتاكم
ليزهدكم في الدنيا ويرغبكم في الآخرة" وذكر أن إبراهيم خليل الرحمن صلوات اللَّه
وسلامه عليه قيل له بأيّ شيء اتخذك اللَّه خليلا؟ قال بثلاثة أشياء، أولها: ما خيرت
بين الأمرين إلا اخترت الذي لله على غيره، والثاني: ما اهتممت فيما تكفل اللَّه في
أمر رزقي، والثالث ما تغديت ولا تعشيت إلا مع الضيف.
قال بعض الحكماء: حياة القلب في أربعة أشياء: العلم والرضا والقناعة
والزهد، فالعلم يرضيه وبالرضا يبلغ هذه الدرجة فإذا بلغ درجة الرضا وصل إلى القناعة
وتوصله القناعة إلى الزهد وهو التهاون بالدنيا، قال: والزهد ثلاثة أشياء: أولها
معرفة الدنيا ثم الترك لها، والثاني خدمة المولى ثم الأدب فيها، والثالث الشوق إلى
الآخرة ثم الطلب لها. وعن يحيى بن معاذ الرازي قال: الحكمة تهوى من السماء إلى
القلوب فلا تسكن في قلب فيه أربع خصال: الركون إلى الدنيا، وهمّ غد، وحسد أخ،
وحب شرف، وذكر
أيضاً عن يحيى قدّس اللَّه تعالى روحه قال: العاقل المصيب من عمل ثلاثاً: ترك
الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبراً أن يدخل فيه، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه. وروى عن
عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: من جمع ستَ خصال لم يدع للجنة
مطلباً ولا عن النار مهرباً: يعني لم يترك الجهد في طلب الجنة والهرب من النار:
أوّلها عرف اللَّه تعالى فأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الحق فاتبعه، وعرف
الباطل فاتقاه، وعرف الدنيا فرفضها، وعرف الآخرة فطلبها، وروى جعفر بن محمد عن أبيه
عن جده عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "يا عليّ أربع خصال من
الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وحب الدنيا، وبعد الأمل" وروى عن رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "لو كانت الدنيا تزن عند اللَّه جناح بعوضة ما سقى
كافراً منها شربة ماء" وروى عن شهر ابن حوشب عن عبد الرحمن بن عثمان قال: "بينما
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أدلج ليلة من الليالي وصلى صلاة الصبح في دمنة
الحي: يعني في مزبلة القبيلة: فرأى سخلة تتنفس في سلاها يعني تتحرك الدودة في
جلدها، فنظر إليها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأمسك ناقتها حتى قام القوم:
فقال أترون أهل هذه الدمنة أغنياء عن سخلتهم هذه وقد هانت عليهم؟ فقالوا بلى يا
رسول الله، والذي نفس محمد بيده للدنيا أهون على اللَّه من هذه السخلة على أهلها )
وروى عن رسول اللَّه أنه قال "الدنيا سجن المؤمن والقبر حصنه والجنة مأواه، والدنيا
جنة الكافر والقبر سجنه والنار مأواه".
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: معنى قوله صلى اللَّه عليه وسلم
"الدنيا سجن المؤمن" أن المؤمن وإن كان في النعمة والسعة فهو بجنب ما أنعم اللَّه
تعالى عليه في الجنة كأنه في السجن، لأن المؤمن إذا حضرته الوفاة عرضت عليه الجنة
فإذا نظر إلى ما أعدّ اللَّه تعالى له من الكرامة عرف أنه كان في السجن، وإن الكافر
إذا حضرته الوفاة عرضت عليه النار فإذا نظر إلى ما أعدّ اللَّه له من العقوبة عرف
أنه كان في الجنة، فمن كان عاقلاً لا يكون مسروراً في السجن ولا يطلب الراحة،
فينبغي للعاقل أن ينظر إلى الدنيا ويتفكر فيما ضرب للدنيا من الأمثال، لأن اللَّه
تعالى ضرب للدنيا مثلاً، والنبي صلى اللَّه عليه وسلم ضرب لها مثلاً، والحكماء
ضربوا لها أمثالاً. والأشياء تصير واضحة بالأمثال قال اللَّه تعالى عز من قائل:
{إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني مثل الدنيا في فنائها وزوالها يعني
كمطر {أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ} يعني أنزل اللَّه تعالى من السماء ماء،
{فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} يعني اختلط الماء بنبات الأرض يعني أن الماء
يدخل في الأرض فينبت النبات، مما يأكل الناس من الحبوب والأنعام، يعني مما يأكل
الأنعام من الكلأ والحشيش {إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا} يعني زينتها
{وَازَّيَّنَتْ} يعني تزينت الأرض بنباتها وحسنت بألوان من النبات {وَظَنَّ
أَهْلُهَا} يعني حسب أهل الزرع والنبات {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا}
يعني على غلاتها وأنها ستتم لهم، {أَتَاهَا أَمْرُنَا} يعني عذاب اللَّه {لَيْلاً
أَوْ نَهَاراً}يعني بالليل أو النهار {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً}يعني مستأصلاً {
كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ}يعني صارت كأن لم تسكن كذلك الدنيا وما فيها لا تبقى
كما لا يبقى هذا الزرع كذلك {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} يعني الأمثال {لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ} في أمر الدنيا والآخرة أن الدنيا تفنى وأن الآخرة تبقى وروى عن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن رجلاً قدم عليه من أرض الشام، فسأله عن أرضهم،
فأخبره عن سعة أرضهم وكثرة النعيم فيها، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
"كيف تفعلون؟ قال إنا نتخذ ألواناً من الطعام ونأكلها، قال ثم تصير إلى ماذا؟ قال
إلى ما تعلم يا رسول الله: يعني تصير بولاً وغائطاً، فقال النبي صلى اللَّه عليه
وسلم: فكذلك مثل الدنيا". وعن يحيى بن معاذ رحمه اللَّه تعالى أنه قال: الدنيا
مزرعة رب العالمين، والناس فيها زرعه، والموت منجله وملك الموت حاصده، والقبر مداسه
والقيامة بيدره والجنة والنار بيت أهوائه: فريق في الجنة وفريق في السعير" وذكر عن
لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بنيّ إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها كثير من الناس
فاجعل سفينتك فيها تقوى اللَّه تعالى، قال بعضهم:
إن
لّله عباداً فِطنّا طلقوا الدنيا وخافوا الفِتنّا
نظروا فيها فلما علموا أنها
ليست لحيّ وَطنا
جعلوها لُجَّة واتخذوا صالح الأعمال فيها
سُفنا
ففي هذه الأعمال الصالحة بضاعتك التي تحمل فيها والحرص عليها
ربحك، والأيام موجها والتوكل ظلها وكتاب اللَّه دليلها، وردّ النفس عن الهوى حبالها
والموت ساحلها والقيامة أرض المتجر التي تخرج إليها والله مالكها. وروى عن الفضيل
بن عياض رحمه اللَّه تعالى أنه قال: بلغنا أنه يجاء بالدنيا يوم القيامة تتبختر في
زينتها وبهجّتها فتقول يا رب اجعلني لأحسن عبادك دارا، فيقول اللَّه عز وجل لا
أرضاك دار لهم أنت لا شيء كوني هباء منثورا فتصير هباءاً منثورا. وذكر عن ابن عباس
رضي اللَّه تعالى عنهما أنه قال: يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء
زرقاء بادية أنيابها مشوه خلقها لا يراها أحد إلا كرهها فتشرف على الخلائق فيقال
لهم: أتعرفون هذه؟ فيقولون نعوذ بالله من معرفتها، فيقال هذه الدنيا التي تفاخرتم
بها وتقاتلتم عليها. وروى في خبر آخر: أنه يؤمر بها فتلقى في النار فتقول يا رب أين
أتباعي وأصحابي: فيلحقون بها.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: لا يكون لها
عذاب لأنه لا ذنب لها ولكنها تلقى في النار لكي يراها أهلها فيرون هوانها، كما أن
الأوثان جعلت في النار وهو قوله تعالى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّه حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ولا يكون للأوثان عقوبة ولكن
لزيادة العقوبة والحسرة لأهلها، وكذلك الدنيا جعلت في النار لزيادة العقوبة
والحسرة لأهلها لتكون لهم زيادة الحسرة، فينبغي للمؤمن أن يعمل للآخرة ولا يشتغل
بالدنيا إلا مقدار ما لابدّ له منها من غير أن يتعلق قلبه بها. وروى عن عيسى ابن
مريم صلوات اللَّه وسلامه عليه أنه قال: عجباً لكم تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها
بغير عمل، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها بغير عمل. وروى أبو عبيدة الأسدي
عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "من أشرب قلبه حب الدنيا التاط قلبه
منها بثلاث: شغل لا ينفك عناؤه، وأمل لا يبلغ منتهاه، وحرص لا يدرك عناه، والدنيا
طالبة ومطلوبة والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها
رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة حتى يأتيه الموت فيأخذه بغتة" وروى إبراهيم بن
يوسف عن كنانة قال: بلغني عن أبي حازم، أنه قال: وجدت الدنيا شيئين: شيئاً منها هو
لي لا يفوتني وشيئاً منها لغيري فلا أدركه، منع الذي لي من غيري كما منع الذي لغيري
مني ففي أيّ هذين أفني عمري، ووجدت ما أعطيت من الدنيا شيئين شيئاً منها يأتي أجله
قبل أجلى فأغلب عليه وشيئاً منها يأتي أجلي قبل أجله فأموت وأتركه لغيري، ففي أيّ
هذين أعصي ربي. وروى عن الأعمش عن سفيان بإسناده عن أشياخه قال "دخل سعد بن أبي
وقاص على سلمان رضي اللَّه تعالى عنه، يعوده وهو مريض فبكى سلمان، فقال له سعد ما
يبكيك يا أبا عبد اللَّه توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو عنك راض، فقال
سلمان: أما إني لا أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلم عهد إلينا عهداً فقال: ليكن بلغة أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب
وحولي هذه الآساود. قال: وإنما كان حوله إجانة وجفنة ومطهرة، فقال سعد: يا أبا عبد
الله: اعهد إلينا عهداً فنأخذه بعدك فقال: يا سعد: اذكر اللَّه تعالى عند همك إذا
هممت وعند حكمك إذا حكمت وعند برك إذا قسمت" وروى جويبر عن الضحاك عن رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلم أنه قيل له "يا رسول اللَّه من أزهد الناس؟ قال: "من لم ينس
المقابر والبلى وترك فضول زينة الدنيا وآثر ما يبقى على ما يفنى ولم يعد أيامه وعدّ
نفسه من الموتى".
(قال الحكيم) أربعة طلبناها فأخطأنا طرقها: طلبنا الغنى في
المال فإذا هو في القناعة، وطلبنا الراحة في الكثرة فإذا هي في القلة، وطلبنا
الكرامة في الخلق فإذا هي في التقوى، وطلبنا النعمة في الطعام واللباس فإذا هي في
الستر والإسلام: يعني فيما يستر اللَّه من العيوب والذنوب، وروى عن رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلم أنه قال: "من أصبح والدنيا أكبر همه يلزم اللَّه تعالى قلبه ثلاث
خصال: همّ لا ينقطع عنه أبداً، وشغل لا يتفرغ منه أبدا، وفقر لا يبلغ منتهاه أبدا"
وروى عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: ما أحد أصبح اليوم في
الناس إلا وهو ضيف وماله عارية فالضيف مرتحل والعارية مؤداة. قال الفضيل بن
عياض رحمه اللَّه تعالى: جعل الشركة في بيت واحد وجعل مفتاحه حب الدنيا، وجعل
الخير كله في بيت واحد، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا. وروى ثابت عن أنس بن مالك رضي
اللَّه تعالى عنه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "قال اللَّه تعالى
يفرح عبدي المؤمن إذا بسطت له شيئاً من الدنيا وذلك أبعد له مني، ويحزن إذا أقترت
عليه الدنيا وذلك أقرب له منى ثم تلا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم هذه الآية:
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ
فِي الخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} أي لا يعلمون أن ذلك فتنة لهم. وعن أنس بن
مالك رضي اللَّه تعالى عنه قال: "خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يوماً وهو
آخذ بيد أبي ذر فقال: يا أبا ذر إن بين يديك عقبة كئودا لا يصعدها إلا المخفون قال
يا رسول اللَّه أنا من المخفين أو من المثقلين؟ قال أعندك طعام يومك؟ قال: نعم، قال
وطعام غد؟ قال نعم، قال وطعام بعد غد؟ قال لا، قال فلو كان عندك ثلاثة أيام كنت من
المثقلين"