حدثنا الفقيه أبو جعفر حدثنا إسحاق بن عبد الرحمن القاري حدثنا أبو بكر
محمد بن أحمد بن العوّام الرياحي حدثنا أبي حدثنا يحيى بن سابق. عن خيثمة بن خليفة
عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أبي جعفر محمد بن الحسين عن جابر بن عبد اللَّه رضي
اللَّه تعالى عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول "كان فيما
أعطى اللَّه لموسى بن عمران عليه الصلاة والسلام في الألواح عشرة أبواب:فأوّل ما
كتب في اللوح الأول: يا
موسى لا تشركن بي شيئا فقد حق القول منى ليلفحن وجوه
المشركين النار واشكر لي ولوالديك أقيك المتالف أعني أحفظك من المهالك وأنسأ لك في
عمرك وأحييك حياة طيبة وأنقلك وأقلبك إلى خير منها، ولا تقتل النفس التي حرمتها
فتضيق عليك الأرض برحبها والسماء بأقطارها وتبوء بسخطى في النار، ولا تحلف باسمي
كاذبا ولا آثما فإني لا أطهر ولا أزكى من لم ينزهني ومن لم يعظم
أسمائي، ولا يحسد الناس على ما آتيّهم من فضلى فإن الحاسد عدّو لنعمتي رادّ لقضائي
ساخط لقسمتي التي قسمت بين عبادي ومن لم يكن كذلك فلست منه وليس مني، ولا تشهد بما
لا يعي سمعك ويحفظه عقلك ويعقد عليه قلبك فإني واقف أهل الشهادات على شهاداتهم يوم
القيامة أسألهم عنها سؤالا حثيثا، ولا تسرق ولا تزن بحليلة جارك فأحجب عنك وجهي
وأغلق عنك أبواب السماء، وأحب للناس كما تحب لنفسك، ولا تذبحن لغيري فإني ما أحب من
القربان ما ذكر عليه اسمي وكان خالصاً لوجهي، وتفرغ لي يوم السبت وفرغ جميع أهل
بيتك" وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم "إن اللَّه تعالى جعل السبت لموسى
عيدا واختار الجمعة فجعلها لنا عيدا".
(قال الفقيه) أبو جعفر رحمّه اللَّه تعالى: حدثنا أبو القاسم حدثتا محمد
بن الحسن حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا أبي عن عبيد اللَّه بن عبد الرحمن بن وهب عن
محمد بن كعب القرظى قال: "قام رسول اللَّه ص على المنبر فقبض كفه اليمنى ثم قال:
كتاب كتب اللَّه تعالى فيه أهل الجنة بأسمائهم وأنسابهم ولا يزاد فيهم ولا ينقص
وليعملن أهل السعادة بعمل أهل الشقاء حتى يقال بأنهم منهم بل هم ثم يستنقذهم اللَّه
تعالى بقضائه من الشقاء إلى السعادة قبل الموت ولو بفواق ناقة، وليعملن أهل الشقاء
بعمل أهل السعادة حتى يقال كأنهم منهم بل هم وليستخرجهنم اللَّه قبل الموت ولو
بفواق ناقة، السعيد من سعد بقضاء اللَّه تعالى والأعمال والخواتيم" وروى فضالة بن
عبيد عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال في حجه الوداع "ألا أخبركم
بالمؤمن؟ المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم،والمسلم من سلم الناس من لسانه
ويده، و المجاهد من جاهد نفسه في طاعة اللَّه تعالى، والمهاجر من هجر الذنوب
والخطايا" قال أبو الدرداء رضى اللَّه تعالى عنه: اعبدوا اللَّه عز وجل كأنكم ترونه
وعدّوا أنفسكم من الموتى، واعلموا أن قليلا يغنيكم خير من كثير يلهيكم، واعلموا أن
البر لا يبلى وان الإثم لا ينسى. وروى ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما عن رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "البر لا يبلى وأن والإثم لا ينسى والديان لا
يفنى، وكن كما شئت يعنى كما تدين تدان".
(قال الفقيه) رحمه اللَّه تعالى: معنى قوله "كما تدين تدان" يعني أنك لو
عملت خيرا تجد ثواب الخير وإن عملت شرا تجز به يوم القيامة جزاء الشر، و هذا كقوله
عز وجل {إن أحسنتم لأنفسكم و إن أسأتم فلها} يعني أن اللَّه تعالى لا يظلم أحد ولا
ينقص من ثواب حسناته شيئا ولا يعاقبه بغير ذنب، وقد بين اللَّه تعالى الطريق وبعث
رسولا كريما ناصحا لأمته وقد بين طريق الجنة وطريق النار. وروى أبو هريرة رضى
اللَّه تعالى عنه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "مثلى ومثلكم كمثل
رجل أوقد نارا فجاء الفراش يتهافتن فيها فأنا أمنعكم
من أن تقعوا في النار" يعني أنهاكم عن الذنوب و العصيان فإن الذنوب تلقى صاحبها في
النار، ويقال:قبلت توبة آدم عليه الصلاة والسلام لخمس خصال،ولم تقبل توبة إبليس
لعنه اللَّه لخمس خصال،فآدم أقرّ على نفسه بالذنب وندم عليه ولام نفسه وأسرع
بالتوبة. ولم يقنط من رحمة اللَّه تعالى، وإبليس لعنه اللَّه لم يقر على نفسه ولم
يندم عليه ولم يلم نفسه ولم يسرع في التوبة وقنط من رحمة اللَّه تعالى، فمن كان
حاله مثل حال آدم قبلت توبته ومن كان حاله مثل حال إبليس لم تقبل توبته وروى عن
إبراهيم بن أدهم رحمه اللَّه تعالى أنه قال:لأن أدخل النار وقد أطعت اللَّه أحب
إلىّ من أن أدخل الجنة وقد عصيت اللَّه تعالى، معناه لو دخل الجنة وقد عصى اللَّه
تعالى فالحياء من اللَّه تعالى لأجل ذنوبه باق، ولو دخل النار وقد أطاع اللَّه
تعالى لا يكون له الخجل والحياء ويرجى خروجه منها. وقد روى عن مالك بن دينار رضي
اللَّه تعالى عنه أنه مرّ بعتبة الغلام في برد شديد وعلى عتبة قميص خلق وهو قائم
يتفكر وهو يترشح عرقا، فقال له مالك ما الذي أوقفك في هذا الموضع؟ قال يا معلمي هذا
موضع عصيت اللَّه تعالى فيه:يعني أنه كان يتفكر في ذنبه وهو يسيل منه العرق حياء من
اللَّه تعالى.وقال مكحول الشامي:من أوى إلى فراشه ثم لم يتفكر فيما صنع في يومه فإن
عمل خيرا حمد اللّه،وإن أذنب استغفر ربه عز وجل، وإن لم يفعل كان كمثل التاجر الذي
ينفق ولا يحسب حتى يفلس ولا يشعر،ويقال إن اللَّه تعالى قال في بعض الكتب:عبدي إني
ملك لا أزول فأطعني فيما أمرتك به وانته عما نهيتك عنه حتى أجعلك حيا لا تموت، عبدي
أنا الذي إذا أقول للشيء كن فيكون. وعن أبي محمد بن يزيد قال: إن استطعت أن لا تسيء
إلى من تحبه فافعل، وقيل له وهل يسيء أحد إلى من يحبه؟ قال نعم نفسك أحب الأنفس
وأعزها إليك، فإذا عصيت فقد أسأت إليها. وقيل لبعض الحكماء: أوصني بشيء؟ قال لا تجف
ربك ولا تجف الخلق ولا
تجف نفسك، أما الجفاء بربك فأن تشتغل بخدمة غيره من المخلوقين، وأما الجفاء مع خلق
فأن تذكرهم عند الناس بسوء، وأما الجفاء مع النفس فأن تتهاون بفرائض اللَّه تعالى.
وروى عن كهمس بن الحسن أنه قال: أذنبت ذنبا وأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة، قيل له
ما هو يا عبد الله؟ قال زارني أخ لي فاشتريت له سمكا فأكل، ثم قمت إلى حائط جاري
فأخذت منه قطعة طين فغسلت بها يدي. وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال
"أعظم الذنوب عند اللَّه تعالى أصغرها عند الناس، وأصغر الذنوب عند اللَّه تعالى
أعظمها عند الناس".
(قال الفقيه) رحمه اللَّه تعالى: يعني أعظمها عند المذنب إذا
عظمه وخافه أصغر عند اللَّه تعالى، وأما إذا كان صغيرا في عين المذنب فهو عظيم عند
اللَّه تعالى لأن أعظم الذنوب ما كان مصرا عليه، وهذا كما روى عن بعض الصحابة رضي
اللَّه تعالى عنهم أنه قال: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار. وروى عن
عوام بن حوشب أنه
قال: أربع بعد الذنب شر من الذنب: الاستصغار والاغترار والاستبشار
والإصرار.
(قال الفقيه) رحمه اللَّه تعالى: لا تغرنك هذه الآية {مَنْ جَاءَ
بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى
إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} لأنه قد اشترط في الحسنة المجيء بها يوم
القيامة والعمل سهل على العامل ولكن المخبئ يوم القيامة شديد، وإن السيئة واحدة
ولكن لها عشر من العيوب: أولها أن العبد إذا عمل سيئة فقد أسخط خالقه على نفسه وهو
قادر عليه في كل وقت، والثاني أنه فرح من هو أبغض إليه وهو إبليس عدو اللَّه
وعدوُه، والثالث تباعده من أحسن المواضع وهو الجنة، والرابع تقربه إلى شر المواضع
وهو جهنم، والخامس أنه جفا من هو أحب إليه وهي نفسه. والسادس نجس نفسه وقد خلقها
اللَّه تعالى طاهرة، والسابع آذى أصحابه الذين لا يؤذونه وهم الحفظة، والثامن أحزن
النبي صلى اللَّه عليه وسلم في قبره، والتاسع أشهد على نفسه الليل والنهار وآذاهم
بذلك وأحزنهم، والعاشر أنه خان جميع الخلائق من الآدميين وغيرهم، فأما خيانة
الآدميين فإنه لو كان لأحد عنده شهادةٍ فإنه لا تقبل شهادته لأجل ذنبه فيبطل حق
صاحبه لأجل ذنبه، وأما الخيانة لجميع الخلائق فإنه يقل المطر إذا أذنب فكان في ذلك
خيانة لجميع الخلائق، فإياك والذنب فإن في الذنب هذه العيوب وفي ذلك كله ظلم نفسه
بمعصيته، وقيل أبخل الناس من بخل على نفسه بما فيه سعادة، وأظلم الناس من ظلم نفسه
بمعصية اللَّه تعالى، لأن من عمل المعصية فقد أهلك نفسه.
(وقال بعض الحكماء): إياك والذنب فإن الذنب شئوم فيصير شؤمه حجر
المنجنيق فيضرب على حائط الطاعة فيكسر الحائط ويدخل ريح الهواء ويطفئ سراج
المعرفة.وقيل لبعض الحكماء: مالنا نسمع العلم ولا ننتفع به؟ فقال لهم لخمس خصال:
أوّلها قد أنعم اللَّه عليكم فلم تشكروه، والثاني إذا أذنبتم فلم تستغفروه، والثالث
لم تعلموا بما علمتم من العلم، والرابع صحبتم الأخيار ولم تقتدوا بهم، والخامس
دفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم.(قال الفقيه) رحمه اللَّه تعالى: سمعت أبي يقول: روى عن رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلم أنه قال "ما من يوم إلا وينزل من المساء خمس من الملائكة أحدهم
بمكة، والثاني بالمدينة، والثالث ببيت المقدس، والرابع بمقابر المسلمين. والخامس
بأسواق المسلمين، فأما الذي ينزل بمكة فينادى: الا من ترك فرائض اللَّه تعالى فقد
خرج من رحمة اللَّه تعالى. وأما الذي ينزل بالمدينة فينادى: ألا من ترك سنن النبي
صلى اللَّه عليه وسلم فقد خرج من شفاعته، وأما الذي ينزل ببيت المقدس فينادى: ألا
من اكتسب مالا حراما لم يقبل اللَّه تعالى سائر عمله، وأما الذي ينزل بمقابر
المسلمين فينادى: يا أهل المقابر بماذا تغتبطون وعلى ماذا تندمون؟
فيقولون ندامتنا على فات من أعمارنا، ونغتبط بأهل الجماعات لقراءتهم كلام اللَّه
تعالى وتذاكرهم بالعلم وصلواتهم على النبي صلى اللَّه عليه وسلم واستغفارهم لذنوبهم
ونحن لا نقدر على شيء من ذلك، وأما الذي ينزل في الأسواق فينادي ويقول، يا معشر
الناس مهلا مهلا فإن لله تعالى سطوات ونقمات فمن خشى سطواته ونقماته فليداو جراحته
حتى يتوب من ذنوبه شوّقناكم فلم تشتاقوا وخوّفناكم فلم تخافوا لولا رجال خشع وصبيان
رضع وبهائم رتع وشيوخ ركع لصبّ عليكم العذاب صبا" وروى عن عائشة رضي اللَّه تعالى
عنها "أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال لها يا عائشة إياك ومحقرّات الذنوب
فإن لها من اللَّه تعالى طالبا" ويقال مثل الذنوب الصغار كمثل من جمع خشبات صغارا
فيوقد منها نارا باجتماعها.ويقال.مكتوب في التوراة من يزرع البرّ يحصد السلامة، وفي
الإنجيل مكتوب: من يزرع السوء يحصد الندامةّ، وهذا في القرآن وهو قول تعالى {مَنْ
يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} وروى أبو القاسم بن محمد عن ابن عباس رضي اللَّه
تعالى عنهما أنه سئل عن رجل كثير الذنوب كثير العمل أعجب إليك أم رجل قليل الذنوب
قليل العمل؟ قال ما أعدل بالسلامة شيئا. يعني قليل الذنوب أعجب إليّ فقال بعض
الحكماء.كل سفلة يعمل الطّاعة، ولكن الكريم من يترك المعصية.
(قال الفقيه) رحمه
اللَّه تعالى: في كتاب اللَّه تعالى دليل على أن ترك المعصية أفضل من أعمال الطاعة
لأن اللَّه تعالى قد اشترط في الحسنة المجيء بها إلى الآخرة وفي ترك الذنوب لم
يشترط شيئا سوى الترك، وقال تعالى {مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثَالِهَا} وقال تعالى {وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الهَوَى، فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ
المَأْوَى} فنسأل اللَّه تعالى العفو.