(قال الفقيه) أبو الليث السمرقندي رضي اللَّه تعالى عنه وأرضاه: حدثنا
الفقيه أبو جعفر. حدثنا أبو القاسم أحمد بن حنبل. حدثنا نصير بن يحيى. حدثنا أبو
مطيع عن حماد بن سلمة عن حميد عن عبد اللَّه بن عبيد بن عمير قال: قال آدم صلوات
اللَّه وسلامه عليه: يا رب إنك سلطت عليّ إبليس ولا أستطيع أن أمتنع منه إلاّ بك
، قال لا يولد لك ولد
إلاّ وكلت عليه من يحفظه من مكر إبليس عليه اللعنة ومن قرباء السوء، قال يارب زدني؟
قال الحسنة بعشر أمثالها وأزيدها والسيئة بواحدة وأمحوها. قال يارب زدني؟ قال
التوبة مقبولة ما دامت الروح في الجسد. قال يارب زدني؟ قال {قُلْ يَا عِبَادِي
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّه إِنَّ
اللَّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ
الرَّحِيمُ}
(قال) وحدثني الثقة بإسناده عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما "أن
وحشياً قاتل حمزة عم النبي صلى اللَّه عليه وسلم كتب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلم من مكة إني أريد أن أسلم ولكن يمنعني عن الإسلام آية من القرآن نزلت عليك
وهي قوله تعالى {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّه إِلَهاً آخَرَ وَلا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّه إِلاَّ بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} وأني قد فعلت هذه الأشياء الثلاثة فهل لي
من توبة فنزلت هذه الآية {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً
فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّه سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} فكتب بذلك إلى وحشي، فكتب
إليه إن في الآية شرطاً وهو العمل الصالح ولا أدري هل أقدر على العمل الصالح أم لا؟
فنزل قوله تعالى {إِنَّ اللَّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فكتب بذلك إلى وحشي، فكتب إليه إن في الآية شرطاً
أيضاً فلا أدري أيشاء أن يغفر لي أم لا؟ فنزل قوله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِي
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّه إِنَّ
اللَّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} فكتب إلى
وحشي فلم يجد فيها شرطاً فقدم المدينة وأسلم".
(قال) أنبأنا الخليل بن أحمد أنبأنا ابن معاذ. أنبأنا الحسين المروزي.
حدثنا عبد اللَّه ابن سفيان قال: كتب محمد بن عبد الرحمن السلمي إليّ قال: حدثنا
أبي قال: جلست إلى نفر من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم بالمدينة فقال رجل
منهم: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول "من تاب قبل موته بنصف يوم تاب
اللَّه عليه". قل قلت أنت سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول؟ قال نعم،
فقال رجل آخر سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول "من تاب قبل الغرغرة تاب
اللَّه عليه" قال: حدثنا محمد بن الفضل بن أحنف. حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا إبراهيم
بن يوسف حدثنا سعيد بن سالم القداح عن بشر بن جبلة عن عبد العزيز بن اسماعيل عن
محمد بن مطرف قال: قال اللَّه تعالى "ويح ابن آدم يذنب الذنب فيستغفرني فاغفر له ثم
يعود فيستغفرني فاغفر له، ويحه لا هو يترك ذنبه ولا ييأس من رحمتي، أشهدكم يا
ملائكتي أني قد غفرت له" قال: حدثنا محمد بن الفضل. حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا
إبراهيم بن يوسف. حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن رجل عن مغيث بن سميّ قال:
كان رجل ممن كان
قبلكم يعمل بالمعاصي فبينما هو يسير ذات يوم إذ تفكر فيما سلف فقال: اللهم غفرانك
ثلاث مرات فأدركه الموت على تلك الحالة فغفر اللَّه له. وروى محمد ابن عجلان عن
مكحول قال: بلغني أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما عرج به إلى ملكوت السموات
أبصر بداً يزني فدعا عليه فأهلكه اللَّه تعالى، ثم رأى عبداً يسرق فدعا عليه فأهلكه
اللَّه تعالى، فقال اللَّه تعالى "يا إبراهيم دع عنك عبادي، فإن عبدي بين ثلاث خصال
بين أن يتوب فأتوب عليه، وبين أن أستخرج له ذرية تعبدني، وبين أن يغلب عليه الشقاء
فمن ورائه جهنم".
(قال الفقيه) رحمه اللَّه تعالى: في هذا الخبر دليل على أن العبد إذا
تاب فبل اللَّه توبته فلا ينبغي للعبد أن ييأس من رحمة اللَّه تعالى فإن اللَّه
تعالى قال {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّه إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ}
يعني من رحمة اللَّه تعالى، وقال في آية أخرى {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ} فينبغي للعاقل أن يتوب إلى اللَّه في
كل وقت ولا يكون مصراً على الذنب فإن الراجع عن ذنبه لا يكون مصراً وإن عاد في
اليوم سبعين مرة، كما روى عن أبي بكر الصديق رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى
اللَّه عليه وسلم أنه قال " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة" وروي عن
النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "والله إني لأتوب إلى اللَّه تعالى في اليوم
مائة مرة" وروي عن علي ابن أبي طالب كرم اللَّه وجهه أنه قال: كنت إذا سمعت من رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم شيئاً نفعني اللَّه به ما شاء اللَّه وإذا حدثني غيره
حلفته فإن حلف صدقته. وحدثني أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلم "وما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين
وسيستغفر اللَّه إلاّ غفر اللَّه له، ثم تلا هذه الآية {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّه يَجِدْ اللَّه غَفُوراً
رَحِيماً}" وفي رواية "تلا هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا
اللَّه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّه وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ
يَعْلَمُونَ، أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ} وروى
الحسن البصري رحمه اللَّه تعالى عن النبي صلى اللَّه عليه
وسلم أنه قال "لما اللَّه عز وجل إبليس عليه اللعنة قال بعزتك وعظمتك إني لا أفارق
ابن آدم حتى تفارق روحه جسده، فقال الرب تعالى وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي
حتى يغرغر بها". وروى القاسم عن أبي أمامة الباهلي رضي اللَّه تعالى عنه أن النبي
صلى اللَّه عليه وسلم قال "صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال، فإذا عمل العبد حسنة
كتب له صاحب اليمين عشرة، وإذا عمل سيئة فأراد أن يكتبها صاحب الشمال قال صاحب
اليمين أمسك فيمسك ست ساعات من النهار أو سبع ساعات فإن استغفر اللَّه لم يكتب عليه
شيئاً وإن لم يستغفر يكتب عليه سيئة واحدة".
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه:
وهذا موافق لما روى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "التائب من الذنب
كمن لا ذنب له" وروي في رواية أخرى "إن العبد إذا أذنب لم يكتب عليه حتى يذنب ذنباً
آخر ثم إذا أذنب ذنباً آخر فلم يكتب عليه حتى يذنب ذنباً آخر، فإذا اجتمعت عليه
خمسة من الذنوب وعمل حسنة واحدة كتب له خمس حسنات وجعل الخمس بإزاء خمس سيئات فيصيح
عند ذلك إبليس عليه اللعنة ويقول كيف أستطيع على ابن آدم وإني وإن اجتهدت عليه يبطل
بحسنة واحدة جميع جهدي". وروى صفوان بن عسال المرادي رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي
صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "من قبل المغرب باب خلقه اللَّه تعالى للتوبة عرضه
مسيرة سبعين سنة أو أربعين سنة لا يزال مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها".
وعن سعيد بن المسيب في قوله عز وجل {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} قال:
هو الرجل يذنب ذنباً ثم يتوب ثم يذنب ذنباً ثم يتوب. وقيل للحسن البصري: إلى متى
هذا؟ قال: لا أعرف هذا إلاّ من أخلاق المؤمنين. وقال بعض الحكماء: حرفة العارف ستة
أشياء: إذا ذكر اللَّه افتخر، وإذا ذكر نفسه احتقر، وإذا نظر في آيات اللَّه اعتبر،
وإذا هم بمعصية أو شهوة انزجر، وإذا ذكر عفو اللَّه استبشر، وإذا ذكر ذنوبه
استغفر.
(قال الفقيه) رحمه الله: حدثني أبي رحمه اللَّه تعالى. حدثنا أبو الحسن
الفراء. حدثنا أبو بكر الجرجاني عن محمد بن إسحق عمن حدثه عن معمر عن الزهري قال
"دخل عمر ابن الخطاب على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو يبكي فقال له رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ما يبكيك يا عمر؟ فقال يا رسول اللَّه بالباب شاب قد
أحرق فؤادي وهو يبكي، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يا عمر أدخله عليّ؟
قال: فدخل وهو يبكي فقال له رسول اللَّه ما يبكيك يا شاب؟ قال: يا رسول اللَّه
أبكتني ذنوب كثيرة وخفت من جبار غضبان عليّ، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
أشركت بالله شيئاً يا شاب؟ قال لا، قال أقتلت نفساً بغير حق؟ قال لا، قال فإن
اللَّه يغفر ذنبك، ولو كان مثل السموات السبع والأرضين السبع والجبال الرواسي. قال
يا رسول اللَّه ذنبي أعظم من السموات السبع والأرضين السبع والجبال الرواسي، فقال
له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ذنبك أعظم أم الكرسي؟ قال ذنبي أعظم. قال ذنبك
أعظم أم العرش؟ قال ذنبي أعظم. قال ذنبك أعظم أم إلهك؟" يعني عفو الله. "قال بل
اللَّه أعظم وأجل. قال فإنه لا يغفر الذنب العظيم إلاّ اللَّه العظيم" يعني العظيم
التجاوز "قال أخبرني عن ذنبك؟ قال فإني أستحي منك يا رسول الله. قال أخبرني عن
ذنبك؟ قال يا رسول اللَّه إني كنت رجلاً نباشاً أنبش القبور منذ سبع سنين حتى ماتت
جارية من بنات الأنصار فنبشت قبرها فأخرجتها من كفنها فمضيت غير بعيد إذ غلب
الشيطان على نفسي، فرجعت فجامعتها فمضيت غير بعيد إذ قامت الجارية وقالت: ويلك يا
شاب أما تستحي
من ديان يوم الدين يضع كرسيه للقضاء ويأخذ للمظلوم من الظالم تركتني عريانة في عسكر
الموتى وأوقفتني جنباً بين يدي اللَّه عز وجل، فوثب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلم وهو يدفع في قفاه وهو يقول: يا فاسق ما أحوجك إلى النار أخرج عني، فخرج الشاب
تائباً إلى اللَّه تعالى أربعين ليلة، فلما تمّ له أربعون ليلة رفع رأسه إلى السماء
فقال: يا إله محمد وآدم وحواء إن كنت غفرت لي فأعلم محمداّ صلى اللَّه عليه وسلم
وأصحابه وإلا فأرسل ناراً من السماء فأحرقني بها ونجني من عذاب الآخرة. قال: فجاء
جبريل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: السلام عليك يا محمد ربك يقرئك السلام،
فقال هو السلام ومنه السلام وإليه يرجع السلام. قال: يقول اللَّه تعالى: أنت خلقت
الخلق؟ قال بل هو الذي خلقني وخلقهم. قال يقول: أنت ترزقهم؟ قال بل اللَّه يرزقهم
وإياي. قال يقول: أنت تتوب عليهم؟ قال بل اللَّه يتوب عليّ وعليهم. قال يقول اللَّه
تعالى: تب على عبدي فإني تبت عليه، فدعا النبي صلى اللَّه عليه وسلم الشاب وبشره
بأن اللَّه تعالى تاب عليه".
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: ينبغي للعاقل
أن يعتبر بهذا الخبر ويعلم بأن الزنى مع الحيّ أعظم ذنباً من الزنى مع الميت،
وينبغي أن يتوب توبة حقيقية لأن الشاب لما علم اللَّه تعالى أن توبته حقيقية تجاوز
عنه، وينبغي أن تكون التوبة على قدر الذنب. وروى عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما في
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّه تَوْبَةً
نَصُوحاً} قال: التوبة النصوح الندم بالقلب
والاستغفار باللسان والإضمار أن لا يعود إليه أبداً. وعن النبي صلى اللَّه عليه
وسلم أنه قال "المستغفر باللسان المصرّ على الذنوب كالمستهزئ بربه" وذكر عن رابعة
رضي اللَّه تعالى عنها أنها كانت تقول: إن استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير: يعني
إذا استغفر باللسان ونيته أن يعود إلى الذنب فإن توبته توبة الكذابين، وهذا لا يكون
توبة وإنما التوبة أن يستغفر باللسان وينوي أن لا يعود إلى الذنب، فإذا فعل ذلك غفر
اللَّه له ذنبه وإن كان عظيماً لأن اللَّه تبارك وتعالى ذو التجاوز رحيم بعباده.
وذكر أن في بني إسرائيل كان ملك فوصف له رجل من العباد فدعاه وراوده على صحبته
ولزوم بابه فقال له العابد أيها الملك حسناً ما تقول، ولكن لو دخلتَ يوماً في بيتك
فوجدتني ألعب مع جاريتك ماذا كنت تفعل؟ فغضب الملك فقال يا فاجر أتجترئ عليّ بمثل
هذا، فقال له العابد إن لي رباً كريماً لو رأى مني سبعين ذنباً في اليوم ما غضب
عليّ ولا طردني عن بابه ولا أحرمني رزقه، فكيف أفارق بابه وألزم باب من يغضب عليّ
قبل أن أغضبه، فكيف لو رأيتني في المعصية ثم خرج.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: الذنب على وجهين: ذنب فيما بينك
وبين اللَّه تعالى، وذنب فيما بينك وبين العباد. أما الذنب الذي بينك وبين اللَّه
تعالى فتوبته الاستغفار باللسان والندم بالقلب والإضمار أن لا تعود فإن فعل ذلك لا
يبرح من مكانه حتى يغفر اللَّه له إلاّ أن يترك شيئاً من الفرائض فلا تنفعه التوبة
ما لم يقض ما فاته ثم يندم ويستغفر، وأما الذنب الذي بينك وبين العباد فما لم ترضهم
لا تنفعك التوبة حتى يحللوك. وروى عن بعض التابعين رضي اللَّه تعالى عنهم أنه قال:
إن المذنب يذنب فلا يزال نادماً مستغفراً حتى يدخل الجنة فيقول الشيطان يا ليتني لم
أوقعه فيه. وذكر عن أبي بكر الواسطي أنه قال: التأني في كل شيء حسن إلاّ في ثلاث
خصال: عند وقت الصلاة، وعند دفن الميت، والتوبة عند المعصية: وقال بعض الحكماء:
إنما تعرف توبة الرجل في أربعة أشياء. أحدها: أن يمسك لسانه من الفضول والغيبة
والكذب. والثاني أن لا يرى لأحد في قلبه حسداً ولا عداوة. والثالث أن يفارق أصحاب
السوء. والرابع أن يكون مستعداً للموت نادماً مستغفراً لما سلف من ذنوبه مجتهداً
على طاعة ربه. وقيل لبعض الحكماء هل للتائب من علامة يعرف أنه قبلت توبته؟ قال: نعم
علامته أربعة أشياء. أوّلها أن ينقطع عن أصحاب السوء ويريهم هيبة من نفسه ويخالط
الصالحين. والثاني: أن يكون منقطعاً عن كل ذنب ومقبلاً على جميع الطاعات. والثالث
أن يذهب فرح الدنيا كلها من قلبه ويرى حزن الآخرة كلها دائماً في قلبه. والرابع إن
يرى نفسه فارغاً عما ضمن لله تعالى له من الرزق مشتغلاً بما أمر به فإذا وجدت فيه
هذه العلامات فهو من الذين قال اللَّه تعالى في حقهم {إِنَّ اللَّه يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} ووجب له على الناس أربعة أشياء: أولها
أن يحبوه فإن اللَّه تعالى قد أحبه. والثاني أن يحفظوه بالدعاء على أن يثبته اللَّه
على توبته. والثالث أن لا يعيروه بما سلف من
ذنوبه. والرابع أن يجالسوه ويذاكروه ويعينوه. ويكرمه اللَّه تعالى بأربع كرامات:
أحدها أن يخرجه اللَّه تعالى من الذنوب كأنه لم يذنب قط. والثاني أن يحبه اللَّه
تعالى. والثالث أن لا يسلط عليه الشيطان ويحفظه منه. والرابع أن يؤمنه من الخوف قبل
أن يخرج من الدنيا لأنه عز وجل قال {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ المَلَائِكَةُ أَلاَّ
تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}
وروى عن خالد بن معدان أنه قال: إذا دخل التوابون الجنة قالوا ألم يعدنا ربنا أن
نرد النار قبل أن ندخل الجنة؟ قيل لهم إنكم مررتم بها وهي خامدة. وروى الحسن عن
النبي صلى اللَّه عليه وسلم "أنه رجم امرأة زنت ثم صلى عليها، فقال له بعض الصحابة
يا رسول اللَّه رجمتها وصليت عليها؟ فقال لقد تابت توبة لو فعلت مثل ذلك سبعين مرة
تاب اللَّه عليها" يعني أن توبتها كانت حقيقية والتوبة إذا كانت حقيقية تقبل وإن
كان الذنب عظيماً. وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "من عيّر
مؤمناً بفاحشة فهو كفاعلها وكان حقا عن اللَّه أن يوقعه فيها، ومن عيّر مؤمناً
بجريمة لم يخرج من الدنيا حتى يرتكبها ويفتضح بها".
(قال الفقيه) رضي اللَّه
تعالى عنه: إن المؤمن لا يقصد أن يقع في الذنب ولا يتعمده لأن اللَّه تعالى قال
{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ} فأخبر أنه قد بغض إلى
المؤمنين المعصية فلا يتعمدها المؤمن ولكن يقع فيها في حالة الغفلة فلا يجوز أن
يعبر بها إذا تاب. وروى عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما أنه قال: إذا تاب العبد
تاب اللَّه عليه وأنسى الحفظة ما كانوا كتبوا من مساوئ عمله، وأنسى جوارحه ما عملت
من الخطايا وأنسى مقامه من الأرض، وأنسى مقامه من السماء ليجيء يوم القيامة وليس
شيء من الخلق يشهد عليه بذلك. وروى عن علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه عن النبي
صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "مكتوب حول العرش قبل أن يخلق الخلق بأربعة آلاف عام
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}"
والله أعلم.
باب آخر من
التوبة
(قال الفقيه) أبو الليث السمرقندي رحمه اللَّه تعالى: حدثنا أبي رحمه
اللَّه تعالى: حدثنا أحمد بن محمد وهو أبو الحسين الفراء الفقيه بسمرقند. حدثنا
الشيخ أبو بكر أحمد بن إسحق الجرجاني. حدثنا داود بن إبراهيم. حدثنا نوح بن أبي
مريم عن مقاتل بن حبان عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما "أن رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ذكر باب التوبة فقال عمر بن الخطاب يا رسول اللَّه ما
باب التوبة؟ فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: باب التوبة خلف المغرب له مصراعان من
ذهب مكللان بالدرّ والياقوت، ما بين المصراع والمصراع الآخر مسيرة أربعين عاماً
للراكب المسرع، وذلك الباب مفتوح منذ يوم خلق اللَّه تعالى خلقه إلى صبيحة ليلة
طلوع الشمس من مغربها، ولم يتب عبد من عباد اللَّه تعالى توبة نصوحاً إلاّ دخلت تلك
التوبة من ذلك الباب. قال معاذ بن جبل رضي اللَّه تعالى عنه بأبي أنت وأمي يا رسول
اللَّه وما التوبة النصوح؟ قال: أن يندم المذنب على الذي أصاب فيعتذر إلى اللَّه
تعالى ثم لا يعود فيها، ثم تغرب الشمس والقمر في ذلك الباب ثم يرصد المصرعان فيلتئم
ما بينهما ويصير كأن لم يكن بينهما صدع قط، فعند ذلك لا تقبل من العبد توبة ولا
تنفعه حسنة يعملها في الإسلام إلاّ من كان قبل ذلك محسناً فإنه يجري له عمله وعليه
ما كان يجري قبل ذلك، وذلك قوله تعالى {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا
يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي
إِيمَانِهَا خَيْراً}". وعن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال:
التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود. وعنه أنه قال: باب التوبة مفتوح وهي مقبولة من
كل أحد إلاّ من ثلاثة: إبليس رأس الكفرة، وقابيل ابن آدم رأس الخاطئين، ومن قتل
نبياً من الأنبياء. وقال باب التوبة للتائبين مفتوح من قبل المغرب مسيرة أربعين سنة
لا يغلق عليهم حتى تطلع الشمس من مغربها.
(قال الفقيه) رحمه اللَّه تعالى: حدثنا أبي رحمه اللَّه تعالى: حدثنا
أبو الحسين الفراء، حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحق،حدثنا عبد الرحمن بن حبيب عن إسمعيل
عن يحيى عن أبي لهيعة عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم "التوبة معلقة في الهواء تنادي لليل والنهار
لا تفتر من يقبلني لا يعذب فهي الدهر كله على هذا حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا
طلعت الشمس من مغربها رفعت" ففي هذه الأخبار حث على التوبة وفيها بيان أن العبد إذا
تاب قبلت التوبة منه، والله تعالى دعا المؤمنين إلى التوبة فقال {وَتُوبُوا إِلَى
اللَّه جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} يعني لكي تنجوا
من عذابه وتنالوا من رحمته فبين اللَّه تعالى أن التوبة مفتاح كل خير وأن فلاح
المؤمن في توبته، وأمر المؤمن بالتوبة فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
تُوبُوا إِلَى اللَّه تَوْبَةً نَصُوحاً } ثم بين ما لهم من الكرامة في التوبة فقال
تعالى {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} يعني يتجاوز عنكم
ذنوبكم {وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} يعني يعطيكم
في الآخرة بساتين تجري من تحت غرفها ومساكنها وأشجارها الأنهار، وأخبرهم أنه غفار
لذنوب التوّابين فقال عز ذكره {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} يعني الكبائر
{أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} يعني دون الكبائر ويقال أو هنا
بمعنى الواو، ومعناه والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله: يعني
خافوا اللَّه عند المعصية فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّه {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} يعني لم يثبتوا
على معصيتهم وهم يعلمون أنها معصية.
وروى سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم
أنه قال "إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه في اليوم مائة مرة" وفي خبر آخر قال "يا
أيها الناس توبوا إلى اللَّه فإني أتوب إليه في اليوم والليلة مائة مرة" فإذا كان
النبي صلى اللَّه عليه وسلم يستغفر ويتوب وقد غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر فالذي لم يظهر حاله أنه أغفر له أم لا كيف لا يتوب إلى اللَّه تعالى في كل وقت
وكيف لا يجعل لسانه أبداً مشغولاً بالاستغفار. وقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما في
قول اللَّه تعالى {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} يعني يقدم ذنوبه
ويؤخر توبته ويقول سأتوب حتى يأتيه الموت على شر ما كان عليه فيموت عليه. وروى عن
دويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه
قال "هلك المسوفون" والمسوف من يقول سوف أتوب، فالواجب على كل إنسان أن يتوب إلى
اللَّه تعالى في كل وقت حتى يأتيه الموت وهو تائب لأن اللَّه تعالى قابل التوبة حيث
قال {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ
السَّيِّئَاتِ} يعني يتجاوز عن سيئاتهم إذا تابوا ورجعوا فالتوبة أن يندم على ذنبه
بالقلب ويستغفر باللسان ويضمر أن لا يرجع إليه أبداً. قال عبد اللَّه بن مسعود رضي
اللَّه تعالى عنه. "من قال أستغفر اللَّه العظيم الذي لا إله إلاّ هو الحي القيوم
وأتوب إليه ثلاثاً غفرت
له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر" وروى أيوب عن أبي قلابة قال: إن اللَّه تعالى لما
لعن إبليس سأله النظرة فأنظره، فقال وعزتك لا أخرج من صدر عبدك حتى تخرج نفسه، فقال
الرب وعزتي وجلالي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى تخرج نفسه. فانظر إلى رحمة اللَّه
ورأفته على عباده أن سماهم مؤمنين بعد ما أذنبوا فقال تعالى {وَتُوبُوا إِلَى
اللَّه جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وأحبهم بعد
التوبة فقال {إِنَّ اللَّه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ}.
وروي عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "التائب من الذنب كمن لا ذنب
له". وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه أن رجلاً سأله فقال: إني أصبت
ذنباً، فقال له علي كرم اللَّه وجهه تب إلى اللَّه تعالى ثم لا تعد. قال فإني قد
فعلت ثم عدت. قال تب إلى اللَّه تعالى ثم لا تعد، قال إلى متى قال حتى يكون الشيطان
هو المحسور. وقال مجاهد في قوله تعالى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّه
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} قال الجهالة العمد {ثُمَّ يَتُوبُونَ
مِنْ قَرِيبٍ} قال كل شيء دون الموت فهو قريب. وروى أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه
عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "إذا أذنب الرجل ذنباً فقال رب إني ذنبت
ذنباً أو قال عملت ذنباً فاغفر لي قال اللَّه تعالى عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً
يغفر الذنب ويأخذ به فقد غفرت لعبدي" وهذا كله لكرامة محمد صلى اللَّه عليه وسلم
وكان في الأمم الماضية إذا أذنبوا ذنباً حرم عليهم الحلال، وإذا أذنب واحد منهم
ذنباً وجد على بابه أو على جسده إن فلان بن فلان قد أذنب كذا وتوبته كذا فسهل الأمر
على هذه الأمة فقال {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ
يَسْتَغْفِرْ اللَّه يَجِدْ اللَّه غَفُوراً رَحِيماً} فالواجب على كل مسلم أن يتوب
إلى اللَّه تعالى حين يصبح وحين
يمسي. وقال مجاهد: من لم يتب إذا أمسى وإذا أصبح فهو من الظالمين: وينبغي للعبد أن
يتوب إلى اللَّه تعالى في كل وقت ويجتهد في حفظ الصلوات الخمس فإن اللَّه تعالى جعل
الصلوات الخمس تطهيراً لذنوب العباد فيما دون الكبائر. وروى علقمة عن عبد اللَّه بن
مسعود رضي اللَّه تعالى عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال يا
رسول اللَّه إني لقيت امرأة في البستان فضممتها اليّ وقبلتها وباشرتها وفعلت بها كل
شيء غير أنني لم أجامعها، فسكت النبي صلى اللَّه عليه وسلم ساعة فنزلت هذه الآية
{وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ} يعني: صل لله
تعالى في طرفي النهار وهي صلاة الفجر والظهر والعصر، وزلفا من الليل يعني صلاة
المغرب وصلاة العشاء الآخرة {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} يعني
الصلوات الخمس تكفر الذنوب التي بينها يعني ما دون الكبائر {ذَلِكَ ذِكْرَى
لِلذَّاكِرِينَ} يعني توبة للتائبين فدعاه النبي صلى اللَّه عليه وسلم وقرأ عليه
فقال عمر رضي اللَّه تعالى عنه يا رسول اللَّه أله خاصة أم للناس عامة، فقال النبي
صلى اللَّه عليه وسلم بل للناس عامة". وروى يونس بن عبيد عن الحسن عن النبي صلى
اللَّه عليه وسلم أنه قال "ليس من عبد إلاّ وعليه ملكان وصاحب اليمين
أمين على صاحب
الشمال فإذا عمل العبد السيئة قال صاحب الشمال أأكتبها؟ قال له دعه حتى يعمل خمس
سيئات فإذا عمل خمساً قال أأكتبها؟ قال دعه حتى يعمل حسنة، فإذا عمل حسنة قال صاحب
اليمين: قد أخبرنا أن الخمسة بعشر أمثالها فتعال حتى نمحو خمساً بخمس ونثبت له
خمساً من الحسنات. قال فيصيح الشيطان ويقول متى أدرك ابن
آدم"
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: حدثنا أبي رحمه اللَّه تعالى قال:
حدثنا أبو الحسين الفراء عن أبي بكر بإسناده عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه
قال: خرجت ذات ليلة بعدما صليت العشاء الآخرة مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
فإذا أنا بامرأة منتقبة قائمة على الطريق فقالت يا أبا هريرة إني قد ارتكبت ذنباً
عظيماً فهل لي من توبة؟ فقلت وما ذنبك؟ قالت إني زنيت وقتلت ولدي من الزنى، فقلت
لها؛ هلكت وأهلكت والله مالك من توبة قالت فشهقت شهقة وخرت مغشياً عليها، ومضيت
وقلت في نفسي أفتي ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بين أظهرنا.، فلما أصبحت غدوت
إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه إن امرأة استفتني
البارحة في كذا وكذا وغني أفتيتها بكذا وكذا، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلم: إنا لله وإنا إليه راجعون، أنت والله يا أبا هريرة هلكت وأهلكت أين كنت يا
أبا هريرة عن هذه الآية {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّه إِلَهاً آخَرَ وَلا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّه إِلاَّ بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ}
إلى قوله {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّه سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّه
غَفُوراً رَحِيماً} قال فخرجت من عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأنا أعدو
في سكك المدينة وأقول من يدلني على امرأة استفتتني البارحة في كذا وكذا والصبيان
يقولن جنّ أبو هريرة حتى إذا كان الليل لقيتها في ذلك الموطن فأعلمتها بقول رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن لها التوبة فشهقت شهقة من السرور وقالت: إن لي
حديقة وهي صدقة للمساكين وكفارة لذنبي. وذكر في قوله تعالى {إِلاَّ مَنْ تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّه سَيِّئَاتِهِمْ
حَسَنَاتٍ} قال بعضهم: إن العبد إذا تاب من الذنوب صارت الذنوب الماضية كلها حسنات.
وروي هكذا عن ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه
أنه قال ينظر الإنسان يوم القيامة في كتابه فيرى في أوله معاصي وفي آخره
حسنات فإذا رجع إلى أول الكتاب رأى كله حسنات. وروى أبو ذر الغفاري رضي اللَّه
تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم نحوه، وهذا معنى قوله {فَأُوْلَئِكَ
يُبَدِّلُ اللَّه سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} ويقال: معناه أنه يحول من العمل السيئ
إلى العمل الصالح فيوفقه اللَّه تعالى لكي يعمل الحسنات مكان ما يعمل السيئات فذلك
قوله تعالى {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّه سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ
اللَّه غَفُوراً رَحِيماً}.
واعلم يا أخي أنه ليس ذنب أعظم من الكفر وقد قال
اللَّه تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ
سَلَفَ} فما ظنك بما دونه. وروى الحسن عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه
قال
"لو أخطأ أحدكم حتى ملأ ما بين السماء والأرض ثم تاب تاب اللَّه عليه". وروى
عن يزيد القاشي قال: خطبنا أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه على منبر رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلم فقال في خطبته: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول
"آدم أكرم البشر على اللَّه يعتذر اللَّه إليه يوم القيامة بثلاث معاذير يقول
اللَّه تعالى يا آدم لولا أني لعنت الكذابين وأبغض الكذب وأوعدت عليه وقد حق القول
مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين لرحمت ذريتك اليوم أجمعين ويقول له يا آدم
إني لا أدخل أحداً من ذريتك النار ولا أعذبه بالنار إلاّ من علمت بعلمي أنه لو
رددته إلى الدنيا لعاد إلى شر ما كان فيه ثم لم يرجع ولم يتب، ويقول له يا آدم قد
جعلتك حكماً بيني وبين ذريتك قم عند الميزان فانظر إلى ما يرفع إليك من أعمالهم فمن
رجح له خير مثقال ذرة فله الجنة حتى تعلم أني لا أدخل النار إلاّ كل ظالم". روت
عائشة رضي اللَّه تعالى عنها عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال:
"الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله، وديوان يغفره الله، وديوان لا يترك اللَّه
منه شيئاً، فأما الديوان الذي لا يغفره اللَّه فالشرك بالله تعالى قال اللَّه تعالى
{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ الجَنَّةَ
وَمَأْوَاهُ النَّارُ} وأما الديوان الذي يغفره اللَّه تعالى فظلم العبد لنفسه فيما
بينه وبين ربه، وأما الديوان الذي لا يترك اللَّه منه شيئاً فظلم العباد بعضهم
بعضاً" وروى أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال
"لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء
نطحتها" فينبغي للعبد أن يجتهد في رضا الخصوم وإذا كان الذنب بينه وبين العباد فإنه
مطالب به من محله ولا ينفعه الاستغفار ولا التوبة ما لم يرض الخصم وإن لم يرضه في
الدنيا آخذ من حسناته يوم القيامة كما جاء في
الخبر.
(قال الفقيه) رحمه اللَّه تعالى: حدثنا أبو الحسين الفراء حدثنا أبو بكر
حدثنا أحمد بن عبد اللَّه عن صالح بن محمد عن القاسم بن عبد اللَّه عن العلاء بن
عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "أتدرون من
المفلس من أمتي؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار ولا متاع، فقال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه
ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيقتص لهذا من
حسناته ولهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت
عليه ثم طرح في النار" فنسأل اللَّه تعالى أن يوفقنا للتوبة وأن يثبتنا عليها فإن
الثبات على التوبة أشد من التوبة. وقال محمد بن سيرين رحمه اللَّه تعالى: إياك أن
تعمل شيئاً من الخير ثم تدعه فإنه ما من أحد تاب ثم رجع فأفلح فينبغي للتائب أن
يجعل أجله بين عينيه لكي يثبت على التوبة ويتفكر فيما مضى من ذنوبه ويكثر الاستغفار
ويشكر الله تعالى على
ذلك وعلى ما رزقه من التوبة ووفقه لذلك، ويتفكر في ثواب يوم القيامة فإن من تفكر في
ثواب الآخرة رغب في الحسنات ومن تفكر في العقاب انزجر عن السيئات. وروى زيد بن وهب
عن أبي ذر رضي اللَّه تعالى عنه قال قلت "يا رسول اللَّه أخبرنا ما كان في صحف
موسى؟ قال كان فيها ست كلمات: عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك؟ وعجبت لمن أيقن
بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف يعمل السيئات؟ وعجبت لمن أيقن بالقدر
كيف ينصب" وفي خبر آخر "كيف يحزن؟ وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن
إليها؟ وعجبت لمن أيقن بالجنة وهو لا يعمل الحسنات؟ لا إله إلاّ اللَّه محمد رسول
الله". وروي عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه أنه مرّ ذات يوم في موضع
من نواحي الكوفة فإذا الفساق قد اجتمعوا وهو يشربون الخمر وفيهم مغنّ يقال له زاذان
وكان يضرب ويغني وكان له صوت حسن، فلما سمع ذلك عبد اللَّه بن مسعود قال: ما أحسن
هذا الصوت لو كان لقراءة كتاب اللَّه تعالى، وجعل الرداء في رأسه ومضى فسمع زاذان
قوله فقال: من كان هذا؟ قالوا عبد اللَّه بن مسعود صاحب رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلم قال: فأي شيء قال؟ قالوا إنه قل ما أحسن هذا الصوت لو كان لقراءة القرآن،
فدخلت الهيبة في قلبه فقام وضرب العود على الأرض فكسره ثم أسرع حتى أدركه المنديل
في عنق نفسه وجعل يبكي بين يدي عبد اللَّه فاعتنقه عبد اللَّه وجعل يبكي كل واحد
منهما، ثم قال عبد اللَّه كيف لا أحب من أحبه اللَّه تعالى، فتاب من ذنوبه وجعل
يلازم عبد اللَّه حتى تعلم القرآن وأخذ حظاً من القرآن والعلم حتى صار إماماً في
العلم. وقد جاء في كثير من الأخبار عن زاذان عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه
تعالى عنهما.
(قال الفقيه) رحمه اللَّه تعالى: سمعت أبي يحكي أن في بني
إسرائيل كانت امرأة بغياً وكانت مفتنة للناس بجمالها وكان باب دارها أبداً مفتوحاً
فكل من مرّ ببابها رآها قاعدة في دارها على السرير بحذاء الباب فكل من نظر إليها
افتتن بها فإذا أراد الدخول إليها احتاج إلى إحضار عشرة دنانير أو أقل أو أكثر حتى
تأذن له بالدخول عليها، فمرّ بها ذات يوم عابد من العباد فوقع بصره في الدار وهي
قاعدة على السرير فافتتن بها فجعل يجاهد نفسه ويدعو اللَّه تعالى ليزيل ذلك من قلبه
فلم يزل ذلك عنه وكان يكابد نفسه المكابدة الشديدة حتى باع قماشاً كان له وجمع من
الدنانير ما يحتاج إليه فجاء إلى بابها وأمرت أن يسلم ذلك إلى وكيل لها وواعدته
وقتاً لمجيئه فجاء إليها في ذلك الوقت وقد تزينت وجلست في بيتها على سريرها فدخل
عليها العابد وجلس معها على السرير، فلما مد يده إليها وانبسط إليها تداركه اللَّه
تعالى برحمته وبركة عبادته المتقدمة فوقع في قلبه أن اللَّه تعالى يراني في هذه
الحالة فوق
عرشه وأنا في الحرام وقد أحبط عملي كله، فوقعت الهيبة في قلبه وارتعدت فرائصه وتغير
لونه فنظرة المرأة إليه فرأته متغير اللون فقالت أي شيء أصابك؟ قال إني أخاف ربي
فأذني لي بالخروج، فقالت له ويحك إن كثيراً من الناس يتمنون الذي وجدته فأي شيء هذا
الذي أنت فيه، فقال لها إني أخاف اللَّه تعالى وإن المال الذي دفعته إليك هو حلال
لك فأذني لي بالخروج، فقالت له كأنك لم تعمل هذا العمل قط؟ قال لا فقالت المرأة من
أين أنت وما اسمك؟ فأخبرها أنه من قرية كذا واسمه كذا، فأذنت له بالخروج فخرج من
عندها وهو يدعو بالويل والثبور ويبكي على نفسه ويحثو التراب على رأسه. فوقعت الهيبة
في قلب المرأة ببركة ذلك العابد فقالت في نفسها: إن هذا الرجل أول ذنب أذنبه وقد
دخل عليه من الخوف ما دخل وإني قد أذنبت منذ كذا وكذا سنة وإن ربه الذي يخاف منه هو
ربي فخوفي منه ينبغي أن يكون أشد، فتابت إلى اللَّه تعالى وأغلقت بابها عن الناس
ولبست ثياباً خلقة وأقبلت على العبادة وكانت في عبادتها ما شاء اللَّه فقالت في
نفسها: إني لو انتهيت إلى ذلك الرجل فلعله يتزوجني فأكون عنده فأتعلم من أمر ديني
ويكون عوناً لي على عبادة اللَّه تعالى، فتجهزت وحملت معها من الأموال والخدم ما
شاء اللَّه فانتهت إلى تلك القرية وسألت عنه فأخبر العابد أنه قدمت امرأة تسأل عنك
فخرج العابد إليها فلما رأته المرأة كشفت عن وجهها ليعرفها، فلما رآها العابد عرف
وجهها وتذكر الأمر الذي كان بينه وبينها فصاح صيحة وخرجت روحه، وبقيت المرأة حزينة
وقالت: إني خرجت لأجله وقد مات فهل من أقربائه أحد يحتاج إلى امرأة؟ فقالوا إن له
أخاً صالحاً ليس له مال، فقالت لا بأس وإن لي من المال ما فيه غنية، فجاء أخوه
فتزوج بها فولد له منها سبعة من البنين كلهم صاروا أنبياء في بني إسرائيل.