(قال الفقيه) أبو الليث السمرقندي رضي اللَّه تعالى عنه: حدثنا أبو
القاسم عبد الرحمن بن محمد قال: حدثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضل
قال: حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن عمر بن عثمان عن موسى بن طلحة عن أبي أيوب رضي
اللَّه تعالى عنه قال: "عرض أعرابي بالنبي صلى اللَّه عليه وسلم فأخذ بزمام ناقته
أو خطامها ثم قال يا رسول اللَّه أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار؟
قال أن تعبد اللَّه ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم" قال:
حدثنا الحاكم أبو الحسن علي السردري قال:
حدثنا أبو محمد عبد اللَّه ابن الأحوص قال
حدثنا الحسين بن علي بن عفان قال: حدثنا أبو محمد عبد اللَّه ابن الأحوص قال حدثنا
الحسين بن علي بن عفان قال: حدثنا هانئ بن سعيد النخعي عن سلمان ابن يزيد عن عبد
اللَّه بن أبي أوفى رضي اللَّه تعالى عنه قال "كنا جلوساً عشية عرفة عند رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم لا يجالسني من أمسى
قاطع الرحم ليقم عنا فلم يقم أحد إلاّ رجل كان من أقصى الحلقة فمكث غير بعيد ثم
جاء، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مالك لم يقم أحد من الحلقة غيرك؟
قال يا نبي اللَّه سمعت الذي قلت فأتيت خالة لي كانت تصارمني: أي تقاطعني، فقالت ما
جاء بك ما هذا من دأبك فأخبرتها بالذي قلت فاستغفرت لي واستغفرت لها، فقال النبي
صلى اللَّه عليه وسلم أحسنت اجلس ألا إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع
رحم".
(قال الفقيه) رحمه اللَّه تعالى: في الخبر دليل قاطع على أن قطع الرحم
ذنب عظيم لأنه يمنع الرحمة عنه وعمن كان جليسه فالواجب على المسلم أن يتوب من قطع
الرحم ويستغفر اللَّه تعالى ويصل رحمه لأن النبي صلى اللَّه عليه وسلم بين في هذا
الخبر الأوّل أن صلة الرحم تقرب العبد من رحمته وتباعده من النار. وروى عن رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "ما من حسنة أعجل ثواباً من صلة الرحم، وما من
ذنب أجدر أن يعجل اللَّه لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر في الآخرة من البغي
وقطيعة الرحم". قال حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد قال: حدثنا فارس بن مردويه
قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا يزيد بن هرون قال الحجاج بن أرطأة
عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده قال "جاء رجل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إن لي
أرحاماً اصل ويقطعوني وأعفو ويظلموني وأحسن ويسيئوني أفأكافئهم؟ قال: لا إذن
تشتركون جميعاً ولكن خذ بالفضل وصلهم فإنه لن يزال معك ظهير من الله ما كنت على
ذلك". ويقال ثلاثة من أخلاق أهل الجنة لا توجد إلاّ في الكريم: الإحسان إلى المسيء،
والعفو عمن ظلمه، والبذل لمن حرمه. قال: حدثنا أبو القاسم قال حدثنا فارس قال:
حدثنا محمد قال: حدثنا أصرم بن حوشب عن أبي سنان عن الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه
الآية {يَمْحُوا اللَّه مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} قال: إن الرجل ليصل رحمه وقد بقي
من عمره ثلاثة أيام فيزيد اللَّه في عمره ثلاثين سنة، وإن الرجل ليقطع رحمه وقد بقي
من عمره ثلاثون سنة فيحطه اللَّه إلى ثلاثة أيام.
وروى ثوبان عن رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلم أنه قال "لا يردّ القدر إلاّ الدعاء، ولا يزيد في العمر إلاّ
البرّ، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه". وعن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما
قال: من اتقى ربه ووصل رحمه أنسئ له في عمره يعني يزاد في عمره، وثرى له ماله يعني
كثر، وأحبه أهله.
(قال الفقيه) رحمه اللَّه تعالى: قد اختلفوا في زيادة العمر فقال بعضهم
الخبر على ظاهره أن من وصل رحمه يزاد في عمره،وقال بعضهم لا يزاد في الأجل الذي أجل
له لأن اللَّه تعالى قال {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً
وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} ولكن معنى زيادة العمر أن يكتب ثوابه بعد موته وإذا كتب له
ثوابه بعد موته فكأنه يزيد في عمره. وروى سعيد عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن النبي
صلى اللَّه عليه وسلم قال "اتقوا اللَّه وصلوا الرحم فإنه أبقى لكم في الدنيا وخير
لكم في الآخرة". وكان يقال: إذا كان لك قريب فلم تمش إليه برجلك ولم تعط من مالك
فقد قطعته. وفي بعض الصحف مما أنزل اللَّه تعالى: يا ابن آدم صل رحمك بمالك فإن
بخلت بمالك أو قلّ مالك فامش إليه برجلك. وقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم صلوا
أرحامكم ولو بالسلام". وقال ميمون بن مهران ثلاثة أشياء الكافر والمسلم فيهن سواء:
من عاهدته ثق له بعهدك مسلماً كان أو كافراً فإما العهد لله، ومن كانت بينك وبينه
قرابة فصله مسلماً كان أو كافراً، ومن ائتمنك على أمانة فأدها له مسلماً كان أو
كافراً. وقال كعب الأحبار: والذي فلق البحر لموسى عليه الصلاة والسلام وبنى إسرائيل
إنه مكتوب في التوراة: اتق ربك وبرّ والديك وصل رحمك أمدّ في عمرك وأيسرك في يسرك
وأصرف عنك عسرك. وقد أمر اللَّه تعالى بصلة الرحم في مواضع من كتابه فقال
{وَاتَّقُوا اللَّه الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} يعني اخشوا اللَّه
الذي تساءلون به الحاجات والأرحام يعني اتقوا الأرحام فصلوها ولا تقطعوها وقال في
آية أخرى {وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ} يعني أعطه حقه من الصلة والبر، وقال في آية
أخرى {إِنَّ اللَّه يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} يعني بالتوحيد وهو شهادة أن
لا إله إلاّ الله، ويأمر بالإحسان يعني إلى الناس والعفو عنهم، {وَإِيتَاءِ ذِي
القُرْبَى} يعني يأمر بصلة الرحم،
فأمر بثلاث أشياء منهم ثم نهى عن ثلاثة أشياء فقال عزّ وجل {وَيَنْهَى
عَنْ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغْيِ} الفحشاء المعاصي والمنكر ما لا يعرف في
شريعة ولا سنة والبغي الاستطالة على الناس {يَعِظُكُمْ} يعني يأمركم بهذه الأشياء
الثلاثة وينهاكم عن هذه الثلاثة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} يعني لكي تتعظوا. وروي
عن عثمان بن مظعون رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلم صديقاً لي وما أسلمت إلاّ حياء من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لأنه كان
يدعوني إلى اللَّه فأسلمت ولم يكن يستقر الإسلام في قلبي فجلست عنده يوماً يحدثني
إذ أعرض عني فكأنه يحدث أحداً بجنبه ثم أقبل عليّ فقال نزل عليّ جبريل عليه الصلاة
والسلام فقرأ هذه الآية {إِنَّ اللَّه يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى} الآية فسررت بذلك واستقر الإسلام في قلبي فقمت من عنده
وأتيت عمه أبا طالب فقلت له كنت عند ابن أخيك فأنزلت عليه هذه الآية، فقال أبو طالب
تابعوا محمداً تفلحوا وترشدوا، والله إن ابن أخي يأمر بمكارم الأخلاق لئن كان
صادقاً أو كاذباً لا يدعوكم إلاّ إلى الخير، فبلغ ذلك النبي صلى اللَّه عليه وسلم
فطمع في إسلامه فأتى إليه ودعاه إلى الإسلام فأبى أن يسلم فنزلت هذه الآية {إِنَّكَ
لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} فقد ذكر اللَّه
عز وجل في هذه الآية صلة الرحم، وقال في آية أخرى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ،
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّه فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}
يعني الذين يقطعون الرحم، ويقال إن اللَّه تعالى لما خلق الرحم قال: أنا الرحمن
وأنت الرحم أقطع من قطعك وأوصل من وصلك. وذكر أن الرحم معلق بالعرش ينادي الليل
والنهار: يا رب صل من وصلني فيك واقطع من قطعني فيك. قال الحسن البصري رحمه اللَّه
تعالى: إذا أظهر الناس العلم وضيعوا العمل وتحابوا بالألسن تباغضوا بالقلوب
وتقاطعوا بالأرحام لعنهم اللَّه فأصمهم وأعمى أبصارهم.
(قال الفقيه) رضي اللَّه
تعالى عنه، حدثني أبي قال: حدثنا محمد بن حمزة أبو الحسين الفراء الفقيه قال: حدثنا
أبو بكر الطوسي حدثنا حامد بن يحيى البلخي قال: حدثنا يحيى بن سليم قال: كان عندنا
بمكة رجل من أهل خراسان وكان رجلاً صالحاً وكان الناس يودعونه ودائعهم، فجاء رجل
فأودعه عشرة ألف دينار وخرج الرجل في حاجته، فقدم الرجل مكة وقد مات الخراساني وسأل
أهله وولده عن ماله فلم يكن لهم به علم فقال الرجل لفقهاء مكة وكانوا يومئذ مجتمعين
متواخرين: أودعت فلاناً عشرة آلاف دينار وقد مات وسألت ولده وأهله فلم يكن لهم بها
علم فما تأمرونني؟ فقالوا نحن نرجو أن يكون الخراساني من أهل الجنة فإذا مضى من
الليل ثلثه أو نصفه فائت زمزم فاطلع فيها وناد يا فلان بن فلان أنا صاحب الوديعة،
ففعل ذلك ثلاث ليال فلم يجبه أحد، فأتاهم وأخبرهم فقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون
نحن نخشى أن يكون صاحبك من أهل النار،
فأت اليمن فإن فيها وادياً يقال له برهوت
وبه بئر فاطلع فيها إذا مضى ثلث الليل أو نصفه فناد يا فلان بن فلان أنا صاحب
الوديعة ففعل ذلك فأجابه في أوّل صوت فقال: ويحك ما أنزلك ههنا وقد كنت صاحب خير؟
قال كان لي أهل ببيت بخراسان فقطعتهم حتى مت فآخذني اللَّه بذلك فأنزلني هذا المنزل
فأما مالك فهو على حاله وإني لم أأتمن ولدي على مالك فدفنته في بيت كذا، فقل لولدي
يدخلك في داري ثم سر إلى البيت فاحفر فإنك ستجد مالك فرجع فوجد ماله على
حاله.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه إذا كان الرجل عند قرابته ولم يكن
غائباً عنهم فالواجب عليه أن يصلهم بالهدية وبالزيارة فإن لم يقدر على الصلة بالمال
فليصلهم بالزيارة والإعانة في أعمالهم إن احتاجوا، وإن كان غائباً يصلهم بالكتاب
إليهم فإن قدر على المسير إليهم كان الميسر أفضل.
واعلم بأن في صلة الرحم عشر
خصال محمودة. أوّلها: أن فيها رضا اللَّه تعالى لأنه أمر بصلة الرحم. والثاني إدخال
السرور عليهم. وقد روى في الخبر "إن أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن" والثالث
أن فيها فرح الملائكة لأنهم يفرحون بصلة الرحم. والرابع أن فيها حسن الثناء من
المسلمين عليه. والخامس أن فيها إدخال الغم على إبليس عليه اللعنة. والسادس زيادة
في العمر. والسابع بركة في الرزق. والثامن سرور الأموات لأن الآباء والأجداد يسرون
بصلة الرحم والقرابة. والتاسع زيادة في المودة لأنه إذا وقع له سبب من السرور
والحزن يجتمعون إليه ويعينونه على ذا فيكون له زيادة في المودة. والعاشر زيادة
الأجر بعد موته لأنهم يدعون له بعد موته كلما ذكروا إحسانه. قال أنس بن مالك رضي
اللَّه تعالى عنه: ثلاثة نفر في ظل عرش الرحمن يوم القيامة: واصل الرحم يمد له في
عمره ويوسع له في قبره ورزقه وامرأة مات زوجها وترك يتامى فتقوم هي على الأيتام حتى
يغنيهم اللَّه أو يموتوا، والرجل اتخذ طعاماً فدعا إليه اليتامى والمساكين. وروى
الحسن عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "ما خطا عبد خطوتين أحب إلى
اللَّه تعالى من الخطوة إلى صلاة الفريضة، وخطوة إلى ذي الرحم المحرم" ويقال خمسة
أشياء من داوم عليها زيد في حسناته مثل الجبال الراسيات ويوسع اللَّه عليه رزقه:
أوّلها من داوم على الصدقة قلت أو كثرت، ومن وصل رحمه قل أو أكثر، ومن داوم على
الجهاد في سبيل الله، ومن داوم على الوضوء ولم يسرف في صب الماء، ومن أطاع والديه
وداوم على طاعتهما.